بات أكثر ما يشكل مخاوف تركيا فيما يتعلق بالعراق هو ذلك الدور المستقبلي الذي يمكن أن يلعبه الأكراد. ولطالما كان صدام حسين يمسك بزمام الأمور في العراق فقد ظلت تركيا مطمئنة إلى أن طموحات الأكراد في الاستقلال والحرية سوف يتم القضاء عليها في مهدها، تماماً، كما أن مطالب الأكراد في تركيا سوف تظل معزولة وعاجزة عن التأثير على حكومة أنقرة. وعلى كل فمنذ أن تم دحر قوات صدام في الكويت في عام 1991 وبدأت الطائرات الأميركية والبريطانية في حماية المناطق الكردية في شمال العراق عبر فرض منطقة حظر على الطيران سرعان ما بدأت الآمال الكردية في الحكم الذاتي والاستقلال تشهد نوعاً من الانتعاش. ولهذا السبب تحديداً كانت تركيا أكثر حيرة وارباكاً بشأن الخطط الأميركية الهادفة للإطاحة بنظام صدام حسين اعتقاداً منها بأن هذه الخطوة لربما تدفع بالأكراد نحو البحث عن الاستقلال الكامل.
وبمراجعة سريعة لتلك الأحداث نجد أن الاختلافات الهائلة بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية بشأن الحرب على صدام قد تحولت لكي تصبح أنباءً سارة لكل من تركيا والعراق. وإذا ما كان قد قدر لتركيا وأميركا أن تتعاونا في الغزو الذي شن في مارس عام 2003 كان من الممكن للقوات الأميركية أن تصطحب معها الآلاف من القوات التركية في هجومها على الجبهة الشمالية. ولكن وجود القوات التركية كان من المرجح أن يثير غضباً عارماً في جميع الأنحاء العراقية وبخاصة في أوساط المجتمع الكردي. وكان من الممكن أن تندلع المعارك ما بين الأتراك والأكراد وبخاصة بشأن الأزمات المزمنة المتعلقة بمستقبل كركوك التي يختلط فيها الأكراد مع العرب بالإضافة إلى التركمان، ولا سيما بشأن الوجود المستمر لأكثر من 5 آلاف مقاتل تابعين إلى حزب العمال الكردستاني في الجبال الشمالية للعراق.
واليوم تشهد العلاقة بين تركيا والعراق تحسناً نسبياً. ويعود هذا الأمر جزئياً إلى عدم وجود قوات عسكرية تركية كبيرة في العراق. ولكن الأمر يعود أيضاً إلى أن الأولوية التركية السياسية الأكثر اهتماماً قد انصبت على تحديد موعد مع الاتحاد الأوروبي لبدء المفاوضات الهادفة للالتحاق بهذا التجمع الحصري. وبدا من الممكن أن تحصل تركيا على هذا الموعد في اجتماع قمة الاتحاد الأوروبي المزمع عقده في ديسمبر المقبل. ولكن معظم المراقبين يعتقدون بأن تركيا سوف تواجه أوقاتاً عصيبة قبل أن تتمكن من الإيفاء بجميع الاستحقاقات الاقتصادية والسياسية المطلوبة لمنح العضوية. وهو أمر بات يعني أن جميع الحكومات التركية المستقبلية مطالبة بالتصرف بحذر شديد تجاه العراق وبخاصة في المسائل المتعلقة بالأكراد وطموحاتهم في الاستقلال والحكم الذاتي. وعلى سبيل المثال فإن أي تدخل تركي عسكري في العراق سوف يتمخض عن فقدان مقعد الاتحاد الأوروبي ما لم تتم هذه الخطوة بموافقة من الاتحاد الأوروبي وهو أمر بعيد الاحتمال.
وما زالت مشكلة متمردي حزب العمال الكردستاني مستمرة من غير حل. ويقال إن بعض هذه القوات عاودت دخولها إلى تركيا بينما أعربت الحكومة التركية للقوات الأميركية في العراق عن رغبتها بضرورة السيطرة على هذه المليشيات. وإلى الآن لم يتمكن الجيش الأميركي من لجم هذه القوات بسبب انشغاله بهموم أمنية أخرى في المثلث السني وفي المناطق الشيعية في الجنوب. لذا فإن هذه المسألة أصبحت تشكل الآن محور النزاع بين تركيا والعراق والولايات المتحدة الأميركية.
إن مستقبل العلاقات التركية-العراقية أصبح مرهوناً في مجمله بنوع الحكومة التي ستتولى مقاليد السلطة في بغداد. ومن الناحية النظرية فإن تركيا ترغب في وجود حكومة مركزية قوية لديها القدرة على بسط سيطرتها على الحدود، وعلى كامل المليشيات العرقية والدينية بالإضافة إلى قطاع إنتاج النفط. وليس هناك حكومة تركية ترغب في حدوث اضطرابات في العراق من الممكن أن تجر تركيا إلى مواجهات عسكرية مع هذه المليشيات في العراق أو في إيران. وبالطبع فإن تركيا لا ترغب أيضاً في أن يحقق الأكراد استقلالهم (هناك عدد من الاقتراحات من قبل المحللين الأميركيين تطالب بتقسيم العراق إلى ثلاث دول). هذا بالإضافة إلى مخاوف أخرى تتعلق بإمكانية ظهور حكومة إسلامية قوية في بغداد تنزع للاصطدام بالطبيعة العلمانية للديمقراطية التركية.
وفيما يختص بالروابط الاقتصادية بين تركيا والعراق فقد ظلت تمثل أهمية حيوية لكلا البلدين. وكان صدام حسين قد استغل تركيا لكي يتجنب آثار العقوبات بينما أخذت التجارة بين البلدين حالياً تشهد ازدهاراً غير مسبوق. ولهذا السبب فإن تركيا باتت تأمل في ظهور حكومة في بغداد تتمتع بقدر كافٍ من التعددية والتحرر قادرة على احتواء الأكراد الذين سوف يتحدد مستقبلهم داخل العراق بالإضافة إلى احتواء المليشيات السنية والشيعية ومنعها من الإمساك بمقاليد السلطة. وفي هذا الخصوص يبدو أن أميركا وتركيا متفقتان على نفس الأهداف المتعلقة بمستقبل العراق على الرغم من الاختلاف السابق بشأن قرار الإطاحة بصدام حسين.