من الملاحظات التي لم يتم التعليق عليها بشأن المناظرات الرئاسية الأميركية، ذلك الصمت الجليدي شبه التام الذي التزم به المرشحان للرئاسة بشأن ما يدور في قطاع غزة، وتداعياته على السياسة الخارجية الأميركية. وعلى الرغم من أن هذا الصمت شمل المناظرات الثلاث التي جرت بين بوش وكيري، فإن هناك أسئلة جديدة ومهمة يتعين طرحها بشأن هذا الموضوع، وهي أسئلة تثير في الوقت الراهن جدلا حادا داخل إسرائيل نفسها. فموضوع غزة يمثل فصلا جديدا من فصول أزمة أخلاقية كبيرة بالنسبة لإسرائيل وشعبها وأصدقائها في كل مكان، ومعظم الإسرائيليين يشعرون بهذه الأزمة.
ومصدر هذه الأزمة هو ذلك الإحساس بالقلق الذي عبر عنه ديفيد بن جوريون في عام 1967، والذي انتاب الإسرائيليين بعد قيام جيشهم بضم مساحات واسعة من الأرض العربية، التي تسكن فوقها أعداد كبيرة من السكان.
كان السؤال الذي واجه الإسرائيليين في ذلك الوقت هو: هل تقوم إسرائيل بضم السكان إليها- كما ضمت الأراضي- أم أن الأفضل هو أن تقوم بطردهم؟ وهذا السؤال يتشابه إلى حد كبير مع ذلك الذي تواجهه إسرائيل في الوقت الحالي في غزة وهو: هل من حق إسرائيل أن تقوم بتدمير المجتمع المدني، انتقاما من مقاومة أفراد هذا المجتمع للمستوطنات الإسرائيلية، ولعمليات الضم الفعلي لما يعتبر تاريخيا وقانونيا أراضي فلسطينية؟.
الأحوال النفسية والسياسية التي نشأت في معسكرات اللاجئين الفلسطينيين، بفعل الاعتداءات الإسرائيلية الجديدة، التي تعتبر الأعنف من نوعها خلال السنتين الماضيتين، والتي أعلن الجيش الإسرائيلي أنها ستستمر لمدة غير محددة، هي أحوال تسودها الفوضى الشاملة أو أحوال يكافح فيها الفلسطينيون من أجل البقاء على قيد الحياة. والتصريحات التي صاحبت تلك الهجمات، والتي صدرت عن الجانب الإسرائيلي، توحي ضمنا بأن إسرائيل تنوي أن تنتهي من المقاومة في غزة هذه المرة، وإن كان الشيء الذي يدركه قطاع هام من الشعب الإسرائيلي نفسه هو أن القضاء تماما على المقاومة الفلسطينية شيء لا يستطيعه شارون.
والهدف الظاهري للهجمات الإسرائيلية، هو إرغام منظمة حماس وغيرها من منظمات المقاومة المسلحة الفلسطينية، على وقف الهجمات التي تشنها باستخدام صواريخ القسام على المدن الإسرائيلية المجاورة لقطاع غزة، والمستوطنات المقامة داخله... وإجبار السلطة الفلسطينية والمجتمع المدني الفلسطيني على الضغط على تلك المنظمات لإيقاف تلك الهجمات... ولكن هذا الهدف محكوم عليه بالفشل.
ويشير تحليل أعدته وحدة الشؤون الإستراتيجية في المركز الإسرائيلي الفلسطيني للأبحاث والمعلومات إلى أن تحقيق الهدف الإسرائيلي يتطلب وجود نوع من السلطة الفلسطينية القادرة على اتخاذ القرارات وتنفيذها، في حين أن الهجوم الإسرائيلي هو استمرار للحملة التي تقوم بها حكومة شارون، للتأكد من القضاء على أي مركز للقرار الفلسطيني. الكثيرون في إسرائيل يعتقدون أن الهجمات في الحقيقة مقصود بها أن تكون عرض للقوة الإسرائيلية يسبق الانسحاب من مستوطنات قطاع غزة في العام القادم. والغرض من عرض القوة هذا، يرجع إلى أن شاورن بطبيعته لا يتحمل أن يتم تفسير ذلك الانسحاب على أنه نصر للفلسطينيين، وعلى الأخص لمنظمة حماس.
شيء مثل هذا حدث عام 2000 عندما قامت إسرائيل بإخلاء ما كان يعرف في ذلك الوقت بالمنطقة الأمنية في جنوب لبنان، تحت الضغط العسكري لحزب الله. ومن المعروف أن تلك المنطقة كانت هي الجزء الذي تبقى تحت السيطرة الإسرائيلية بعد انسحابها من هناك بعد الغزو الذي قامت به لذلك البلد عام 1982 بقيادة شارون. وهناك تفسير جديد وهام لمغزى ما يدور في غزة اليوم. وهذا التفسير تم تقديمه بواسطة رئيس أركان شارون السابق" دوف ويزجلاس" والذي عمل أيضا كصلة وصل بين شارون وإدارة بوش، وبين شارون وقيادة الكونجرس في واشنطن.
ففي الآونة الأخيرة أجرى ويزجلاس لقاء مع صحيفة (هاآريتس) الإسرائيلية قال فيه أن الغرض من الانسحاب الإسرائيلي من غزة، هو وضع نهاية لخارطة الطريق والتي كان يفترض أن تحقق تسوية سلمية نهائية للصراع العربي الإسرائيلي تشمل إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وهو ما تخلت عنه إدارة بوش مؤخرا.
وصرح وايزجلاس للصحيفة المذكورة، أنه قد تم الآن التوصل إلى صفقة مع الحكومة الأميركية تنص على أنه في مقابل الانسحاب من غزة سوف تتخلى الإدارة الأميركية عن الوعد الذي قطعته على نفسها بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة، مع كل ما يستتبع بذلك، وأن تلك الصفقة قد حظيت بمباركة من قبل الرئيس بوش، وبموافقة من قبل مجلسي الكونجرس. فيما بعد حاول وايزجلاس التنصل مما قاله ولكنه لم يكن مقنعا. فالشيء الذي كان واضحا منذ أن جاءت خريطة الطريق هو أنها كانت – بالنسبة لحكومتي شارون وبوش معا- مجرد إيماءة لاسترضاء الرأي العام العالمي، تم استنباطها في الأساس، كي تكون بمثابة غطاء سياسي لقرار توني بلير الخاص بالانضمام لأميركا في غزوها للعراق.
وأرئيل شارون وزملاؤه يقومون بتمثيل الدور الذي كان ا