إذا كانت الولايات المتحدة ارتكبت من الأخطاء ما لا يُحصى في الإعداد لحرب العراق، ثم في طريقة خوضها والتبريرات الكاذبة التي سوّغتها بها، فهل هي في صدد تصحيح هذه الأخطاء بعد انتخابات الشهر المقبل الرئاسية؟ وهل يمكن مثل هذا التصحيح في ظل إدارة بوشية ثانية؟ لنقل، بادئ ذي بدء، إن أخطاء واشنطن الكبرى حيال الشرق الأوسط، والمستمرة حتى الآن، قابلة للحصر في خمسة أخطاء أساسية. وهذه وإن لم تكن كلها مُوعاةً تماماً، غير أنها تخلق من الأوضاع ما يزيد النفور بين العرب والمسلمين من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى: فأولاً، هناك الخطأ السياسي الذي يتبدى في توفير الغطاء لأرييل شارون بسياساته القائمة على الانتهاك والقتل ومصادرة الأراضي وتجريفها. وهو خطأ ينهض على تغييب موضوع النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي أصلاً عن اهتمامات الإدارة الحالية وإحالته جملة وتفصيلاً إلى بند "مكافحة الإرهاب". ولا بأس بالتذكير، بغض النظر عن السلبيات الضخمة للانتفاضة الثانية، بأن أبرز رموز هذه الإدارة كانوا قد بلوروا نقدهم لإدارة بيل كلينتون، وذلك قبل الانتفاضة بسنوات، انطلاقاً من اهتمامها "المفرط" بموضوع "الضغط على إسرائيل" و"ممالأة ياسر عرفات". كذلك قامت أولويتهم، ولا تزال، على العراق بوصفه الطريق إلى النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي وليس العكس.
وثانياً، هناك الخطأ الاقتصادي. ففضلاً عن الشعور العام في "العالم الثالث" بالغش في ما خص التجارة الحرة، وهو غش مصدره دعم الاحتكارات الزراعية في البلدان الغربية، بل فضلاً عن التقلص النوعي في المعونات الخارجية الأميركية والمتنامي منذ إدارة "رونالد ريغان"، تنعكس على العراق خصوصاً نتائج الفلسفة الاقتصادية المعتمدة في واشنطن. ذاك أن المعونات والرساميل المتجهة شرقاً لا تصب في إنشاء البنى التحتية وتصليب جهاز الدولة بوصفه أحد مصادر الإعالة الاجتماعية، على ما كانت عليه الحال مع مشروع "مارشال" في أوروبا الخمسينينات (في ظل الكينزية الاقتصادية واستمرار الروزفلتية السياسية). فما يحصل الآن هو تدفق الشركات والرساميل الطائرة وصولاً إلى جيوش المرتزقة في ظل "خصخصة الأمن". وغني عن القول إن هذه جميعاً لا تبني مجتمعاً ولا تمهد لدولة قوية يتطلبها العراق بإلحاح.
وثالثاً، هناك الخطأ الأيديولوجي إذا صح القول، ومفاده تقديم برنامج هجين للعرب والمسلمين. وليس من المبالغة أن نقول إن المحافظين من هؤلاء سينفرون مما هو إصلاحي وتقدمي في البرنامج المذكور، فيما التقدميون يرون أنفسهم غرباء عن الروحية الدينية وشبه الدينية التي تتحكم بالكثير من توجهات هذه الإدارة وسلوكها. فكيف يمكن، مثلاً، في من يريد تحديث برامج التعليم العربية أن يكافح تعليم الداروينية، في المدارس الأميركية، لصالح الرجوع إلى نظرية الخلق الدينية؟
هكذا تنتهي إلى انشطار لافت: المحافظون ممن تسيّسوا أصلاً في مناخ العداء للغرب لن يستجيبوا، فيما التقدميون سيبقون، في أحسن أحوالهم، فاترين. والشيء نفسه يمكن سحبه على الأنظمة، حيث يستجيب بعضها المحافظ لإصلاحات هي غير الإصلاحات التي يستجيب لها بعضها العسكري.
ورابعاً، هناك الخطأ ذو المظهر الدبلوماسي، ولو أنه في عمقه يتعدى الدبلوماسية بكثير. والمقصود، هنا، تجاوز أوروبا والأمم المتحدة ودورهما لمصلحة العمل الانفرادي واعتماد فلسفة الضربات الاستباقية. وهذا التجاوز إذا ما تراجع قليلاً في الأشهر الماضية، إلا أن جوهره لم يتغير فعلياً، بدليل أن واشنطن لم تعتمد أية مراجعة جدية حيال أي من السياسات المتعلقة بخلافها مع أوروبا والأمم المتحدة. وحتى لو وضعنا جانباً مسائل العراق وفلسطين، بقيت قضايا البيئة والمحكمة الدولية وغير ذلك شاهداً على ما نقول. وفي ظل تفرّد كهذا، خشن مرة وناعم مرة أخرى، يصعب توفير الخلفية القوية المطلوبة لإحداث البرنامج الطموح للتغيير في العالمين العربي والإسلامي.
وخامساً وأخيراً، هناك الخطأ العسكري-التقني، وهذا قد تبدو نتائجه أسرع ظهوراً على السطح من دون أن يكون، في العمق وعلى المدى الأبعد، الخطأ الأكثر تأثيراً. فهناك دائماً نظريتان أميركيتان متضاربتان شهد العراق عديد الأمثلة على تضاربهما المدمر. يكفي التذكير بخلافات وزارة الدفاع وطاقمها ونظريتها للحرب (حيث يكفي الحد الأدنى من عدد الجنود في ظل التعويل على التقنيات الحربية)، مع وزارة الخارجية وطاقمها ونظريتها للحرب (التي تتطلب العدد الأقصى من القوات)، وقد امتد الخلاف بينهما ليشمل، فضلاً عن اختيار الأشخاص الأصدقاء، الطريق إلى الديمقراطية، حيث اعتبرته الخارجية أطول مدى وأشد استعداداً للتسويات من الطريق الذي رسمته وزارة الدفاع.
هل أن هذه الأخطاء الكبرى قابلة للتلافي في ظل إدارة بوشية ثانية؟ أغلب الظن أن لا. ذاك أن العناصر المذكورة أعلاه ليست من نتائج الصدف والاعتباط، ولا هي كلياً من بنات جريمة 11 سبتمبر والردود المتطرفة عليها. فتجاهل موضوع الشرق الأوسط والانحياز الأعمى إلى إسرائيل لهما مقدماتهما