تسلل الهاتف الخليوي إلى داخل نسيج الثقافة الشعبية قبل أن يحتل مكانته المرموقة في مجال الأمن والسلامة الشخصية وبشكل لا يمكن الاستغناء عنه على الإطلاق. فأينما كنت أصبح بإمكانك على الدوام تلقي النجدة والمساعدة. وعلى الرغم من أن المستخدم بات يتعين عليه تجاوز عقبة الإشارات الخليوية الضعيفة والبطاريات الناضبة في بعض الأحيان إلا أن الهاتف النقال أصبح هو بطل الساحة المتوج بعد أن تجاوز إمكانيات هواتف الخط الثابت العتيقة في كل شيء تقريباً. وإلى ذلك لم يعد هناك أدنى شك من أن الدخول اللحظي إلى الهواتف أصبح من شأنه إنقاذ الأرواح. وبات بإمكان الشخص التبليغ عن الحرائق والسرقات ونوبات أمراض القلب بالإضافة إلى حوادث اصطدام أو تحطم السيارات. بل أصبح بإمكان الآباء اقتفاء آثار صغار أبنائهم بينما يستمر الأكبر سناً منهم في التواصل مع أولياء الأمور. بل إن إدراك الشخص إلى حقيقة أن بإمكانه دائماً طلب المساعدة في الحالات الطارئة جعل الجميع يشعر بأنه أكثر أمناً وارتياحاً. على أن هذا الأمر قد جعل الأشخاص في ارتباط أكثر استمرارية والتصاقاً بالآخرين. وفي الأشهر الأخيرة توصل عدد متزايد من الخبراء إلى تعريف ودراسة الآثار السالبة لهذا الأمر، والتي مفادها أن استخدام الهاتف الخليوي لربما جعلنا أقل ذاتية وأقل قدرة على حل مشكلاتنا بأنفسنا، وحتى عندما تكون الإجابات جاهزة أمام أعيننا. ووفقاً لتحقيق بعنوان "هواتفنا الخليوية وأنفسنا" بقلم جريستين روزن كبيرة المحررين في صحيفة " نيو اتلانتيس"، وهو التحقيق الذي يستكشف الآثار الاجتماعية للهاتف النقال، فإن سهولة الحصول على النصائح السريعة قد أخذ يشجع مستخدمي الهاتف النقال للاستجابة إلى أي مشكلة حساسة كانت أم طفيفة عبر اللجوء إلى الضغط على أزرار الهاتف بدلاً من إعمال العقل بغية اتخاذ القرار.
وتقول روزن :لقد عملت الهواتف النقالة على إشاعة جو يغري بالاعتمادية وعملت على تآكل مبدأ طالما تمركز في المجتمع الأميركي ألا وهو الاعتماد على النفس. ومضت تضرب مثلاً قائلة: لقد تعلمت مؤخراً كيفية تغيير إطار السيارة وتركيب العجل الاحتياطي قبل الذهاب إلى أقرب ورشة. ولكن من الذي يرغب في تركيب إطاره الآن؟ ما عليك إلا الاتصال فوراً بخدمة استرداد السيارات.
وعلى العكس من ذلك فإن القدرة على الاستمرار في تتبع أثر الأصدقاء وأفراد العائلة أصبح من شأنها أن تؤدي إلى حزمة جديدة كاملة من عدم الشعور بالأمان. فبالنسبة للآباء فإن الاتصال بهاتف خليوي يحمله أحد أطفالهم قد يتمخض عن نوع من الضبابية والغموض. وفي حال عدم رد الطفل على المكالمة سرعان ما يبدأ الآباء في تصور الأسوأ. وهذا الوضع إنما يوضح أيضاً كيف أن الهاتف الخليوي قد أصبح أداة للخداع في العلاقات. فالأطفال قد يلجأون إلى استخدام الهاتف كأداة تكنولوجية لإخفاء الموقع الذي يتواجدون فيه قبل الادعاء بأن البطارية كانت في حالة موات أو أنهم لربما كانوا يتواجدون في منطقة انعدم فيها الإرسال، هذا في نفس الوقت الذي كان فيه الطفل يستقبل محادثة والدته مجدداً غير أنه اختار عدم الرد عليها.
وتظهر ازدواجية الهاتف الخليوي كأداة حماية أو مستعبِد (بكسر الباء) لنا بجلاء وبخاصة في أماكن مثل الحدائق الوطنية حيث يلجأ ملايين الأميركيين إلى اختبار شهامتهم ومروءاتهم في المناطق الموحشة. وبات من غير المدهش أن تشهد خدمة الحدائق الوطنية أعداداً هائلة من الجوالة والمخيمين وهم يحملون الهواتف الخليوية في هذه الأيام ويعملون من خلالها على إنقاذ الأرواح في بعض الأحيان. على أن الهواتف لربما تشجع زائري الحدائق على تجشم الفرص الأكثر خطورة حيث أنها تشيع الاطمئنان بسهولة طلب النجدة في حالة الوقوع في مشكلة دون أن يضع أحد أي احتمال لأن تكون تغطية الإشارة الهاتفية في البرية ضعيفة أو حتى غير موجودة في الأصل أو أن فرق حراسة الحدائق ليسوا بالضرورة هم فرق استرداد السيارات.
وبعيداً عن مجال الإنقاذ في المناطق البرية، هنالك مجموعة من الخبراء طفقوا يشيرون إلى أن مناقشة موضوع الهواتف الخليوية والاستقلالية الشخصية قد دفع بمسألة السبب ونتائجه إلى مرتبة خلفية. فالاستقلالية الذاتية أصبحت أصلاً نوعا من الوهم. وكما يشيرون، ففي عالم بات مبنياً على الاتصالات اللحظية والفورية سواء عبر التلغراف أو الهاتف أو الفاكس أو البريد الإليكتروني أو أي شيء آخر فإن الهاتف الخليوي قد أضاف مزيداً من الشعور بالاطمئنان والراحة. ويقول مارك فيدرمان كبير الاستراتيجيين في برنامج ماكلوهان للثقافة والتكنولوجيا في جامعة تورنتو: لقد أصبحنا أقل اعتماداً على النفس من أي وقت مضى. وذلك لأننا أصبحنا أكثر تواصلاً وارتباطاً.
ومضى يشير إلى أن مساعدة الهاتف الخليوي "على تحويل الاستقلالية إلى اعتمادية" أمر لا يمكن اعتباره إيجابياً ولا سلبياً. ولكنه نتاج طبيعي للنمو المفرط في الإبداع التكنولوجي. ولكنه أشار إلى أن إعمال الفكر والتبصر وتأمل ومراقبة النفس والتفكير في الذات إنما هي