كان ذلك في العام 1984م، كنت قد تخرجت بشهادة عليا في اللغة الإنجليزية، دخلت صحيفة الوطن الكويتية بصحبة صديقي المرحوم سمير ياسين"، كان سمير من العاملين في الصحيفة قبلي، في مكتب الأستاذ محمد مساعد الصالح سألني مستغربا عما أقوم به من عمل في بلدية الكويت وأنا أحمل شهادة الماجستير في اللغة الإنجليزية، فقلت إني أترجم المحتويات الغذائية المستوردة للتأكد من خلوها من لحم أو شحم الخنزير، بمعنى أنني أحمي البلد من الخنازير، فقال لي بسخريته المعهودة: إذن أنت فاشل في عملك بالبلدية، فالبلد مليء بالخنازير، ولكن عسى أن تنجح في الصحافة.
كان محمود المراغي مدير التحرير حاضرا ذاك اللقاء، وخرجت من المقابلة وقد كلفني الأستاذ محمد مساعد بالعمل في مركز المعلومات بالصحيفة على أن أكون مسؤولا عن متابعة وترجمة ما ينشر في الصحافة الأجنبية عن منطقة الخليج. كان المراغي رحمه الله صامتا طيلة اللقاء يبتسم ويتابع، ولا أذكر أنه قال شيئا.
بعد أيام اتصل بي سكرتير محمود المراغي وقال لي بأن المدير يريد مقابلتي، ودخلت إلى مكتبه، فوقف بتواضع وابتسامة صادقة على محياه، وقال لي بأنه يريدني أن أنتقل مؤقتا لصفحة الفن، لأن مترجمها ترك العمل بالصحيفة، وبأنهم بحاجة إلى متابعة الأخبار الفنية الأجنبية، فاعتذرت له بكل هدوء، وكانت حجتي ببساطة أني لا أعرف عن الفن الأجنبي كثيرا، ومن ثم فلن أكون مفيدا للصحيفة في هذا المجال، وبأني أعمل في الصحيفة عصرا لأني أحب متابعة ما يكتبه الآخرون عنا، أما مسألة الفن الأجنبي فليس لي معها علاقة بالمرة، هز رأسه وابتسم، وقال لي بالحرف:"زي ما انت عايز يا أخ سعد". أكبرت فيه أخلاقه يومها، وقدرت له تواضعه واحترامه لرغبات العاملين معه، وهو من كان بإمكانه أن يصدر قرارا داخليا بنقلي شئت أم أبيت.
ودارت السنون، وتوثقت علاقتنا، وغادر الكويت، ولكنها لم تغادره. ففي ساعات الظلام الدامس التي مرت بها، بقي وفي الموقف للكويت التي عمل بها، ومنسجم النفس مع المبادئ التي آمن بها، لم تهزه الجعجعة، ولم تؤثر به المغريات، كان صادقا مع نفسه، ومتوافقا مع قيمه، وضرب مثلا في الوفاء وفي التوافق والانسجام.
في آخر مؤتمر التقيته في الدوحة قبل أشهر، تباينت مواقفنا مما يجري في العراق، واختلفنا. كان مناهضا للوجود العسكري الأميركي في العراق، ولم أكن كذلك، وكان يرى أن الدموية في العراق مقاومة، وأنا لا أراها كذلك، وكان يرى أن الولايات المتحدة الأميركية قد غاصت في فيتنام جديدة في العراق، وخالفته الرأي، وبقينا أصدقاء رغم اختلافنا، وازداد احترامي ومودتي له رغم تباين وجهات نظرنا.
حزنت حزنا شديدا لرحيل الأستاذ محمود المراغي الأسبوع الماضي، فقد كان أبو أشرف معلّما في الصحافة، ومَعلما في الأخلاق والمبادئ والقيم. كان لينا بصلابته، وكان صلبا في ليونته، تراه يطرح موقفا بكل تواضع وأدب جم، رغم أن إيمانه بمواقفه كان صلدا كالرواسي. من لم يعرفه يظن أنه سهل الكسر، فقد كان خجولا كالعذراء، ومتواضعا كالطفل، ودمثا كالخميلة...
رحمك الله يا أبا أشرف، فقد تركت حزنا عميقا في قلوب من عرفوك وخصوصا أن فجيعة رحيلك جاءت مفاجئة.