كيف بوسعنا أن نطمئن إلى المستقبل في ظل غياب شبه مطلق لمنطق الحق وانتصار شبه مطلق لمنطق القوة ؟ فالولايات المتحدة تستخدم حق الفيتو لمنع إدانة الجرائم الوحشية التي ترتكبها إسرائيل في غزة ومخيم جباليا وخان يونس وسواها من ملاجئ الفلسطينيين، وأنصار إسرائيل يقولون إن الشعب الفلسطيني يشن عدواناً ضخماً على إسرائيل، وإن أهل مخيم جباليا يهددون أمن الدولة الأكثر تفوقاً من الناحية العسكرية على العرب مجتمعين، وهم يتحدثون عن صواريخ القسام وكأنها رؤوس نووية من طراز ما يملكون، ويزعمون أن الفلسطينيين يلاحقونهم كيلا ينسحبوا من غزة ، بدعوى أن انسحاب إسرائيل من غزة سيجعل وضعها أفضل... لماذا يقاتل الفلسطينيون إذن إن كانوا لا يريدون من إسرائيل أن تنسحب ؟ ثم يستدركون فيقولون بل إن الفلسطينيين يريدون أن يبدو انسحاب إسرائيل من غزة قهراً و قسراً، وأنصار إسرائيل يتجاهلون أن شارون يريد في حملته الأخيرة أن يفك رؤوس الفلسطينيين عن أجسادهم قبل أن ينفذ خطة فك الارتباط، والرؤوس التي يريد فكها هي الرؤوس العنيدة التي ترفض الذل والخنوع والقبول بما يريد أن يرمي من فتات، وهي التي جعلته يستقبل السنة الخامسة من الانتفاضة هائجاً لا يعرف ما بوسعه أن يفعل غير مزيد من القتل والتدمير معلناً إيمانه العميق بمبدأ يهودي خطير هو: ليس مهماً ما يقوله الآخرون،المهم هو ما يفعله اليهود فقط. ويتجاهل أنصار منطق القوة أن شارون عطل خارطة الطريق وقتل جهود الرباعية، وأصر على إقناع العالم بأنه لا يجد شريكاً للسلام، والعالم يعلم أن شارون في الحقيقة لا يجد من يقبل الاستسلام، ولهذا فهو يريد تصفية كل منظمات المقاومة، وقد قتل من قياداتها المئات، ولكنه يفاجأ بظهور جيل جديد يطور أساليب المقاومة ويتشبث بالأرض كيلا يكرر غلطة الآباء الذين هاجروا في النكبتين، وقد نسيهم العالم على مدى ستة وخمسين عاماً قضوها لاجئين بائسين، ينتظرون يوماً ينفذ فيه مجلس الأمن قراراته الخمسين التي رمتها إسرائيل في سلة المهملات.
ويتجاهل أنصار إسرائيل أن الهجوم الأخير على غزة والمخيمات يحمل عنوان أيام الندم، وأن الإسرائيليين يتقربون إلى الله بقتل المزيد من العرب والمسلمين، فليس هناك تفسير لقيام ضابط إسرائيلي بإفراغ طلقات مسدسه في جسد طفلة فلسطينية بعد أن قتلها سوى حرصه على دخول الفردوس ودم الطفلة يقطر من يديه، وهذا الضابط لا يسمونه إرهابياً لأنه يدافع عن نفسه أمام طفلة كانت في طريقها إلى المدرسة، وأحسب أنه قتلها ومزق جسدها بعد موتها لمجرد أنه تخيل أنها لو بقيت حية وكبرت، فستلد شباناً ينضمون إلى المقاومة وينفذون عمليات استشهادية ولعله اقتدى بمبدأ الرئيس بوش فسحقها بضربة استباقية.
وغياب المنطق يتجلى مرة أخرى في أن إسرائيل تكرر في تحريضها الراهن للولايات المتحدة ضد سورية، ذات الذرائع التي استخدمتها لدفع الولايات المتحدة لاحتلال العراق، ولا يهتم الصهاينة بما آلت إليه تلك الذرائع الواهية. لقد نجحت ذريعة اتهام العراق بوجود أسلحة دمار شامل لديه حين تم تحطيم ما أنجز العراقيون على مدى سنوات القرن العشرين من بنى تحتية و تدمير قوى الشعب وإغراقه بمآس وفواجع لن ينهض منها بسهولة، فإن لم يجد أحد بعد ذلك أثراً لأسلحة الدمار فبوسع الرئيس بوش أن يحول الأكذوبة المأساة إلى نكتة وأن يتساءل ضاحكاً أين هي أسلحة الدمار؟ هل هي تحت طاولتي؟
والصهاينة اليوم يبحثون عن تهم لسورية، ولكنهم يجدون صعوبة بالغة في إقناع العالم بما يفبركون، فقد كانت صورة صدام حسين الدكتاتورية البشعة وسيرته الإجرامية الوحشية تساعدهم إلى حد ما في تمرير الذرائع والمبررات، فحتى الرافضون للحرب كانوا ينطلقون في رفضهم من الخوف على العراق وليس من الحرص على صدام ونظامه القمعي. لكن الأمر مختلف مع سورية. ففي سورية رئيس يحمل قيماً إنسانية نبيلة، ويدعو إلى السلام العادل والشامل، ويقود مشروعاً وطنياً لتحديث بلده وتطويره، وهو ملتزم بقضايا أمته، ويتعامل مع المجتمع الدولي من خلال احترام عميق لمبادئ الشرعية الدولية، وليس في سجله الشخصي أو الرئاسي ما يمكن أن يستغله الصهاينة، سوى تأييده القضية الفلسطينية ورفض الاستسلام و التنازل عن الحقوق العربية. يتهمون الرئيس الأسد بدعم حزب الله، وهذا شرف يفخر به كل عربي ومسلم، لأن حزب الله حزب مقاومة وطنية حققت انتصاراً ابتهج به كل العرب والمسلمين والشرفاء في العالم، وهم يتجاهلون أن حزب الله حزب سياسي مشارك في البرلمان اللبناني، وليس ميليشيا مسلحة كما يصفونه. وقد أكدت سورية مرات أن حزب الله ليس ورقة في يدها كما يتوهمون، فسورية تتعامل مع هذا الحزب ومع سواه من القوى السياسية اللبنانية الوطنية من معايير الأخوة والتعاون والمصير المشترك الذي يربط سورية ولبنان بقوة التاريخ والجغرافيا. والهدف الإسرائيلي الواضح من الدعوة إلى تفكيك حزب الله الآن، هو إعادة إشعال الفتنة النائمة في لبنان، فإن كانت إسرائيل تريد الأمن والاطمئنان حقاً فالأمر متاح وهو بيدها،