لسنوات طويلة ظل "توماس فرانك" يصدر مجلته السياسية المسماة "ذا بافلر" في شيكاغو، دون أن تلقى الإقبال الذي تستحقه. وفي الوقت الذي نجح فيه "مايكل مور"، وغيره من المهرجين المنتمين إلى اليسار الأميركي في تحقيق شهرة واسعة في أميركا بل وفي العالم كله من خلال الكتب والبرامج التلفزيونية، ظل "توماس فرانك" ومجلته يعانيان من التعتيم شبه الكلي على الرغم من انتمائه لنفس التيار، ومن قدرته على التعبير عنه أكثر من غيره. والأسباب التي دعت إلى هذا التعتيم على الرجل وعلى مجلته لا تزال سرا.
وهذه الأسباب لا يمكن أن تكون هي كتاباته التي تتمتع بحس فكاهي متألق، وتحفل بروح السخرية الخلاقة، التي يمكن معها وضعها على قدم المساواة مع كتابات الساخرين العظام من أمثال الأديب الأميركي الفذ "مارك توين".
وهذه الأسباب لا يمكن أن ترجع أيضا إلى التزامه السياسي غير القابل للتشكيك. كما لا يمكن أن ترجع إلى قصور في أمانته الصحفية، لأن فرانك يتمتع في الحقيقة بدرجة عالية من الأمانة الصحفية، التي تجعله ينأى بنفسه عن القيام بأداء دور الصحفي المتعالم، الذي لا يتورع عن تقديم العظات للأشخاص المرتدين عن ولاءاتهم السياسية الأصلية، أو تغذية تحيزاتهم الفكرية، كما يفعل الكثيرون. من الأشخاص الذين قاموا بتغيير ولاءاتهم السياسية الأصلية "الليبرالية" أشخاص مثل "ديفيد هير" و"أندرو موشن"، والذين يندر أن يخلو كتاب من الكتب التي قام "فرانك" بتأليفها من انتقادات موجهة لهما ومن تعرية لموقفهما وانتهازيتهما السياسية، وهو الأمر الذي يسبب لهما على الدوام قدرا هائلا من الانزعاج ويضعهم في حالة ترقب دائم، لتوقعهم أن "فرانك" لن يتوقف عن تقديم الاستجوابات والمساءلات القاسية لهم، ولافتراضاتهم، ورؤاهم.
الحقيقة الباعثة على الاكتئاب، هي أنه لم يعد هناك سوق كبير للمساءلات أو الاستجوابات في هذا البلد التي لم تعد مثل تلك الأشياء بالبضاعة الرائجة فيه.
والجدير بالذكر في هذا السياق أن فرانك قد نشأ وترعرع في "لي وود" و"ميشن هيل" وهما ضاحيتان من الضواحي الراقية في مدينة "كنساس" في الزمن الذي كانت فيه التقاليد الشعبية الخاصة بالجناح اليساري الأميركي في الغرب الأوسط،لا تزال ذكرى حية في العقول والقلوب. في ذلك الوقت كان لا يزال هناك أناس يعرفون أن الراديكاليين الكنساسيين هم الذين بدؤوا الحرب الأهلية الأميركية، عندما قاموا بالانضمام إلى المعركة ضد العبودية، قبل اندلاع نيران المعارك الفعلية لتلك الحرب بشكل رسمي، وأن مطالبهم الخاصة بخلق اتحادات عمالية، وتنظيم أعمال البنوك، والمشروعات الكبرى، ومساعدة المزارعين الصغار،هي التي بثت الرعب في نفوس الطبقة الحاكمة في أميركا آنذاك.
أما اليوم فإن هناك على ما يبدو العديد من الأشياء التي يمكن أن تثير الغضب الشديد للكثيرين من قادة الحركات الشعبية الأميركية. فمدن الغرب الأوسط الصغيرة تزال الآن من الوجود ليحل محلها مراكز تجارية. وصغار المزارعين يخرجون من سوق العمل لتحل محلهم المشروعات الزراعية الكبرى. والأغنياء يزدادون غنى، والفقراء يزدادون فقرا، وتزداد الهوة بينهم عمقا، لدرجة أن راتب المدير التنفيذي في المؤسسات الكبرى، أصبح يزيد عن راتب العامل العادي بمقدار أربعمائة ضعف!
صحيح أنه يوجد في الوقت الراهن نوع من الانتفاضة الحقيقية لحركة الطبقة العاملة، إلا أن تلك الانتفاضة للأسف الشديد أصبحت تصب بشكل واضح في مصلحة القطط السمان نتيجة لعدم التخطيط والتنظيم. فبيوت الضواحي الراقية مثل "ليوود"، و"ميشن هل" التي كان والدا "فرانك"، الميسوري الحال، قادرين على شرائها منذ ثلاثين عاما خلت، أصبحت الآن مناطق مغلقة على الطبقة الجديدة الفائقة الثراء. كما تحولت الضاحيتان اللتان كانا يسكنان فيهما، إلى قصور منيفة، تحيط بها حدائق غناء يغطيها بساط سندسي أخضر، وتتناثر في جنباتها حمامات السباحة التي يجلس حولها السادة الجدد في حالة استرخاء، بينما يهرع الخدم هنا وهناك لتلبية طلباتهم في الوقت الذي تطير فيه الطائرات الخاصة فوق المكان.
وضحايا هذا المجتمع غير العادل يحدقون في هذه الرفاهية الخيالية، التي لن يكون بمقدورهم ولا بمقدورهم أطفالهم أن يتمتعوا بها في يوم من الأيام، ولا يجدون ما يفعلونه سوى أن يصمموا بينهم وبين أنفسهم، على التصويت لصالح جورج دبليو بوش.
ويعبر فرانك عن هذه الحالة قائلا :"العمال الغاضبون بأعدادهم الهائلة يتحركون دون مقاومة ضد المتغطرسين والمغرورين... ويهزون قبضاتهم في وجه أبناء النعمة والامتيازات... ويضحكون من المشاعر الرقيقة لسكان (لي وود) الأرستقراطيين المنعمين... ويجتمعون عند بوابات ميشن هيل، ويرفعون الرايات السوداء، ويزأرون بطلباتهم الرهيبة العادلة والمشروعة في وجه المليونيرات الذي يرتعدون خوفا في قصورهم الباذخة".
و"فرانك" ينتمي إلى فئة مختلفة عن الفئة التي ينتمي إليها "مور". فهو كاتب أكثر براعة وأكثر ذكاء. وهو أيضا صحفي حاذق يقوم بتوجيه الأسئلة إلى مؤيدي