إذا كان القرن الحادي والعشرون هو قرن حروب المياه، وفقا لما أكدته دراسات عديدة ومراكز بحث عالمية وإقليمية متخصصة، فإن أزمة المياه تبدو بصورتها الأكثر حدة بامتياز في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفي هذا الفضاء الجغرافي البشري الممتد حيث يطل شبح ندرة الماء منذرا بصراعات أخرى قد تلتهب بسببها أوضاع التوافقات الهشة القائمة، فإن دور المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها البنك الدولي، في إيجاد حلول ناجعة لأزمة المياه وفي الحيلولة دون انزلاق المنطقة نحو كوارث مائية قادمة، يبدو اليوم موضع تساؤل ملح ولا يخلو أحيانا من تشكيك واضح في صدقية الأهداف المعلنة لسياسات البنك المتعلقة ببحوث وإدارة موارد المياه وتمويلها في المنطقة.
ويهدف كتاب "البنك الدولي والأزمة المائية في الشرق الأوسط" لمؤلفه الدكتور حسام الدين ربيع الإمام، الباحث في شؤون المياه ونزاعاتها، إلى بيان المعايير التي يعتمدها البنك في تمويل المشروعات المائية، ومدى ارتباط معاييره بالسياسات الغربية، كما يسعى إلى بلورة تصور لإدارة الأزمات المائية على ضوء طروحات البنك، وإلى تقييم التعاون العربي في تطوير المصادر المائية خارج إطار الإملاءات التي يفرضها البنك أحيانا.
وكما يوضح المؤلف في بداية كتابه، فان إنشاء البنك الدولي كان هدفه في المقام الأول المساعدة في عمليات البناء وإعادة تعمير ما دمرته الحرب العالمية الثانية، وفي المقام الثاني الإسهام في تنمية البلدان النامية التي كان أغلبها في وقته يتأهب للخروج من ربقة الاستعمار الغربي؛ لكن سياسات البنك إزاء مجموعة الدول الأخيرة اعتمدت على ثلاثة مسارات: أولها التحكم في النشاط الاقتصادي لهذه الدول، وثانيها العمل على تمكين رأس المال العالمي من السيطرة على الأنشطة الاقتصادية الأساسية فيها. أما المسار الثالث فيستهدف إفساح المجال أمام البنك للتأثير في السياسات والتوجهات العامة لدول العالم غير الغربي. وانطلاقا من هذه المسارات، يبحث الكتاب في المراحل التي مرت بها السياسات المائية للبنك؛ ففي المرحلة الأولى وحتى عام 1956 كان يكتفى بتمويل المشروعات التي لا تمثل فيها المياه مصدر نزاع متكرر، فقرر الرد بالرفض على تمويل مشروعات مثل سد "باكرا" ومشروع "نانغال" عام 1949 ثم مشروع خزان "أسفل السِند" عام 1950، حيث كانت المشروعات الثلاثة تقع على المياه المتنازع عليها بين الهند وباكستان. وفي المرحلة الثانية التي انتهت في عام 1993 تخلى عن معاييره المتشددة، فقرر إهمال الاحتجاجات التي لا صلة لها بالموضوع، لكنه واجه صعوبات عدة يرجع بعضها إلى أشكال العلاقات بين دول المجرى المائي، وصعوبة إيجاد اتفاقات ملائمة لتسوية النزاعات المائية بين الدول المتشاطئة. أما المرحلة الثالثة فبدأها بالإعلان في عام 1993 عن سياسة جديدة لإدارة شؤون الموارد المائية تستند إلى ثلاثة مبادئ أساسية؛ أولها التعامل مع المياه بصورة شاملة، وثانيها ضمان المشاركة لجميع أصحاب المصلحة الحقيقية، أما الثالث فإدارة شؤون المياه باعتبارها سلعة اقتصادية، معتبرا أن في ذلك حلا للأزمة المائية المرتقبة. وتؤكد "سياسة إدارة المصادر المائية" التي اعتمدها البنك في عام 2001 على تأمين السدود والأنهار الدولية، وإدارة المعلومات حول المصادر المائية، ومنح قروض لمشروعات الصرف الصحي، ومشروعات الري، والتأكيد على أن عملياته يجب أن لا تضر البشر أو البيئة.
ويتطرق الكتاب إلى نشاط البنك في منطقة الشرق الأوسط، قائلا إنه زاد بشكل ملحوظ في بداية تسعينيات القرن الماضي، فتدرج نشاطه من إنشاء منطقة عمليات جديدة برئاسة نائب رئيس البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ديسمبر 1991، إلى تبنى مجموعة من الحلول لإدارة الأزمة المائية عالميا وإقليميا، وفي ذلك العام شارك البنك في أول بعثة لوكالة الأمم المتحدة إلى لبنان حيث حدد قطاع المياه ضمن أربعة قطاعات تحتاج إلى مساعدة فورية، ثم قام بتمويل العديد من مشاريع التطوير والإدارة المائية في عدد من دول المنطقة، مثل مشروع التطوير الإقليمي للصحراء الجزائرية، إضافة إلى العديد من المشاريع المائية لصالح مصر واليمن والأردن وتركيا والمغرب، فضلا عن قيامه بإعداد الدراسات والتقارير حول الوضع المائي في المنطقة.
لكن رغم ذلك لم تسلم سياسات البنك من بعض الانتقادات التي وجهت إليها، وفي المقدمة ارتباطه بالسياسة الأميركية؛ إذ يوضح الكتاب أن قيام الولايات المتحدة بالإشراف على إنشاء البنك الدولي وهندسة الأفكار الواردة في اتفاقات "بريتون وودز" وتسييس دور البنك من أجل خدمة المصالح الغربية في المنطقة، أدت إلى ربط قروضه المفيدة برضا الولايات المتحدة وخدمة مصالحها. وقد ظهر ذلك التوجه نتيجة عوامل أهمها: أولا انفراد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بصياغة الاتفاقية المنشئة للبنك فجاءت تعبيرا عن سياسة الدولتين وعن الفلسفة الليبرالية الكلاسيكية، وثانيا أن الاتفاقات تمت صياغتها لخدمة مصالح الدول الرأسمال