زيارة رئيس الوزراء البريطاني "توني بلير" القصيرة إلى الخرطوم، هي أول زيارة لرئيس دولة من الغرب للسودان، ولقاؤه والرئيس السوداني عمر البشر هو أول لقاء للبشير مع مسؤول غربي على مستوى رئيس دولة عضو دائم في مجلس الأمن منذ اندلاع الحرب في "دارفور". ولو كان للزيارة من معنى فهي قد عكست الاهتمام البريطاني المتزايد بالأزمة السودانية المتفاقمة والتي أصبح ملفها أحد أسخن الملفات أمام مجلس الأمن. لقد ظلت العلاقات السودانية-البريطانية طوال أكثر من عقد من الزمان محل شد وجذب وصعود وهبوط، وفي لحظات كان يبدو وكأنما بريطانيا قد فقدت "اهتمامها التاريخي" بالسودان وقررت ترك الأمر لسواها من الحلفاء، أو على الأقل هذا ما كان يبدو على السطح.
لكن الحقيقة أن الحكومة البريطانية قد بدأت أولى محاولاتها لـ"التدخل الحميد" في الأزمة السودانية في وقت مبكر. ففي أواخر الثمانينيات وبعد أشهر من قيام نظام الإنقاذ عرضت الحكومة البريطانية على مصر أن يقوما معاً ببذل "جهودهما الحميدة" نحو حل سلمي لمشكلة الجنوب والحرب الطاحنة التي كانت تدور فيه، وبررت ذلك بأنها ومصر عليهما "مسؤولية أخلاقية" تجاه السودان الذي كان يوماً "السودان الإنجليزي-المصري". ولقد حمل العرض البريطاني إلى القاهرة وزير الدولة للشؤون الخارجية على عهد رئيسة الوزراء "مارجريت تاتشر". لكن "خرطوم الثورة" يومذاك بادرت بالرد على المحاولة البريطانية بفظاظة وعنف "الثوار المبتدئين". وأدانت التدخل الاستعماري في شؤونها الداخلية، وشنت أجهزة إعلامها حملة مضرية على الاستعمار الذي يريد العودة إلى السودان من نافذة الجنوب الذي خلفته وراءها قنبلة موقوتة، كما قيل.
لكن الخرطوم نفسها هي التي سعت في وقت لاحق لدى لندن طلباً لوساطتها ليس بينها وبين "المتمردين" الجنوبيين ولكن لدى الولايات المتحدة الأميركية "الشيطان الأكبر". وهكذا كان أول لقاء بين نائب رئيس الجمهورية علي عثمان والمسؤول عن الملف السوداني لدى الخارجية الأميركية في العاصمة البريطانية. ودارت الأيام دورتها مصحوبة بالتقلبات السياسية السودانية العصية على الفهم، وجاء رئيس الوزراء البريطاني إلى الخرطوم ليعلن بعد ساعات من وصوله أنه توصل إلى اتفاق مع الرئيس البشير ذي خمس نقاط. التزمت فيه حكومة السودان أن تعقد في نهاية ديسمبر المقبل اتفاقاً شاملاً للسلام مع "المتمردين" في "دارفور" وجنوب السودان، ويسبقه -اتفاق السلام الشامل- أن تحدد الحكومة السودانية مواقع قواتها وأسلحتها "وأن تعود القوات الحكومية إلى ثكناتها ويتزامن مع ذلك انسحاب لقوات المتمردين". وأن تلتزم الحكومة السودانية بـ"تنفيذ اتفاق العون الإنساني الموقع مع الأمم المتحدة". وذكر "بلير" للصحفيين أن الأمر يحتاج إلى التوسع في عدد المراقبين من الاتحاد الأفريقي الذين سيشرفون على اتفاق وقف إطلاق النار المهزوز.
وإذا كان رئيس الوزراء البريطاني قد توصل إلى اتفاق مع الحكومة السودانية يؤدي إلى سلام شامل في "دارفور" وجنوب السودان قبل مطلع العام القادم -وهو أمر عجزت عن تحقيقه الولايات المتحدة وأوروبا والأمم المتحدة وغيرها- وأن "يقنع" حكام السودان بتنفيذه بجدية وصدق فسيحسب له هذا كإنجاز كبير وانتصار دبلوماسي عظيم هو في حاجته إليه من أجل مستقبله السياسي، مثلما السودان في حاجة شديدة لسلام دائم و"نهاية سعيدة" لمسلسل الحروب التي تأخذ بأطرافه جميعها.