المثل عن الكذاب، الذي استغاث عندما احترق بيته ولم يصدّقه أحد معروف لدى معظم سكان العالم. ومن يُصدّق الكلام الجديد لوكالة المخابرات الأميركية "السي آي أي" عن تطوير العراقيين بعد احتلال بلدهم أسلحة للدمار الشامل؟ المعلومات بهذا الصدد تشكل أخطر صفحة في تقرير "لجنة مسح أسلحة الدمار الشامل في العراق"، الذي أعلن الأسبوع الماضي. ذكر التقرير أن مجموعة أطلق عليها اسم "شبكة العبّود" Al Abud network جنّدت عالمين عراقيين عملا نحو 7 شهور في إعداد الغازات السامة والأسلحة الجرثومية قبل القبض على الشبكة في يونيو الماضي. وجاء في التقرير أن الثري البغدادي المسؤول عن تمويل الشبكة اختفى قبل القبض عليه، ولا يُعرف مصير غازات الخردل والرايسين والأعصاب والتابون السامة التي تم إنتاجها. ونفى تشارلز دولفر، رئيس لجنة "السي أي آي" وجود صلة للشبكة بالنظام السابق، وذكر أن قوة تفتيش عسكرية أميركية عثرت عليها بالصدفة في مارس الماضي في مختبر كيماوي يحمل اسم "العبّود" في سوق التجهيزات الكيماوية في بغداد. عُثر في المختبر على كيماوي عراقي نجح في إنتاج غاز الرايسين الفتاك من بذور نبات الخروع، وتوصلت تحقيقات لاحقة إلى كيماويين آخرين ومختبرات ومخازن سرية للشبكة.
ويربط تقرير "السي آي أي" بين "شبكة العبّود" ومجموعة مقاومة في الفلوجة تحمل اسم "جيش محمد". ويدّعي أن أفراداً في المجموعة اعترفوا بالطلب من الكيماوي العراقي في ديسمبر الماضي إنتاج مواد كيماوية سامة خطّطوا لاستخدامها في صواريخ وقنابل ضد القوات الأميركية وحلفائها. وبعد محاولات فاشلة لإنتاج التابون، الذي يسبب التشنج والشلل والموت، وغاز الخردل الذي يصيب ببثور فتاكة في الجلد والعيون والرئتين استعانت "شبكة العبّود" بعالمين كيماويين نجحا في إنتاج ما يسمى "كعكة الرايسين"، التي يمكن استخدامها لإنتاج مادة سامة، والنابالم الذي استخدمته القوات الأميركية في حرب فييتنام. جميع هذه المنتجات لم تُثمر، حسب التقرير عن إنتاج أسلحة ذات قوة تدميرية واسعة. ويصعب تصديق ادّعاء رئيس هيئة التفتيش نجاح "شبكة العبّود" في العثور بسرعة على العلماء والذخيرة والأموال لبناء أسلحة كيماوية وتحذيره من مخاطر مهلكة تصيب القوات الأميركية وحلفاءها في حال نجاح أي محاولات مماثلة. فهذه السرعة لا تتفق مع المثل العراقي عن "العربي بعد أربعين سنة أخذ بثاره وقال استعجلت"!
ومنتجات "شبكة العبّود"، حسب تقرير "السي آي أي"، الذي يقع في نحو ألف صفحة هي أسلحة الدمار الوحيدة، التي تم العثور عليها في العراق. استغرق البحث عن هذه الأسلحة سنتين، وكلّف مليارا ونصف المليار دولار، ومسح خلاله 1625 مفتشاً للأمم المتحدة والولايات المتحدة 1700 موقع في العراق. ولم تكشف حملة التفتيش هذه، التي لا مثيل لها في التاريخ إلاّ عن حقائق يعرفها جميع سكان العالم، باستثناء زعماء واشنطن ولندن "الصادقين". ما الجديد في تأكيد أن العراق دمّر جميع أسلحته عقب حرب الخليج عام 1991، أو الاعتراف بأن العراقيين لم ينتجوا منذ ذلك الحين أي سلاح كيماوي أو بيولوجي أو ذري، ولم يستأنفوا إنتاجها حتى بعد طرد مفتشي الأمم المتحدة في عام 1998؟ ولو عثر المفتشون على جزء من اليورانيوم المخصّب، أو قارورة أنثراكس واحدة "لسمعنا قرع الطبول قبل هذا الوقت بزمن طويل"، حسب افتتاحية لصحيفة "لوس أنجليس تايمز" عن الموضوع.
ألم يمتثل العراق بالكامل لقرار مجلس الأمن 1441، الذي اتخذته واشنطن ولندن ذريعة لشن الحرب؟ وهل ينكر ملايين مشاهدي التلفزيون حول العالم عيونهم التي رأت تسليم العراقيين في ديسمبر 2002 اضبارات المعلومات المطلوبة؟ تلك الاضبارات التي رفضها فورياً وبازدراء الزعيمان الأميركي والبريطاني واعتبراها أكاذيب محضة تضمنت أدق وأكمل معلومات عن وضع الأسلحة العراقية. ذكر ذلك سكوت ريتر مفتش لجنة الأمم المتحدة للبحث عن الأسلحة في العراق للفترة ما بين1991 و1998. وقال ريتر في مقالة في صحيفة "الغارديان" البريطانية أن العراقيين قدّموا معلومات أكثر صدقية من التقرير الجديد، الذي يتضمن في رأيه تخمينات غير موثوقة. وتحدّى ريتر زميله السابق دولفر في الكشف عن محضر استجواب ضابط المخابرات العراقية، الذي رأس للفترة ما بين 1992 و2003 فريق التجسس العراقي على مفتشي الأمم المتحدة. وذكر ريتر أن الضابط العراقي، ولم يكشف عن أسمه لأسباب أمنية جنّد عناصر في بغداد والبحرين ونيويورك للبحث ليس عمّا يعرفه المفتشون عن الأسلحة بهدف إخفائها، بل معرفة لماذا ترفض الأمم المتحدة قبول شهادة العراق، وما الأهداف الأخرى، التي يسعى إليها المفتشون داخل العراق. وتثبت مكالمات هاتفية سجلتها المخابرات العراقية لتشارلز دولفر مع مسؤولين أميركين في نيويورك وبغداد أن الأجندة المطروحة كانت إزالة صدام حسين، واعترف ريتر أنه شارك شخصياً في هذا الموضوع الذي كان مطروحاً دائماً.
و"عادة بالبدن ما يغيّرها غير الكفن"، حسب المثل العراقي. فتقرير "السي آي أي" يكشف عن