عندما أراد الساخر "روبرت فروست" أن يصف لنفسه في أي حوار أو مناظرة وكان يعني أنه الشخص الذي لا يستقر على شيء لأنه فاقد للثقة في نفسه. أتذكر ذلك وأنا أقرأ للكثيرين ممن يعتبرون أنفسهم ليبراليين عربا أو أستمع إليهم على المحطات الفضائية. إنهم تتقاذفهم أمواج الأحداث العربية والعالمية دون أن يستقر لهم قرار، ذلك أنهم لا يملكون الثوابت العقيدية/الفكرية أو المنهجية التي تسمح لهم بثبات معقول. ويأتي عدم ثباتهم هذا من انتمائهم للمدرية الفكرية التي أوجدت ثانية الحقائق/الآراء في الحياة الاجتماعية الغربية.
في هذه المدرية لا يمكن وصف أي شيء بحقيقة ما لم يكن قابلاً للقياس والفحص والاختبار الذي يُمارس في حقول العلوم الطبيعية (الفيزياء، الكيمياء،... إلخ) بينما لا يمكن إخضاع الآراء لمثل ذلك الفحص وبالتالي لا يمكن التعامل معها بجديّة في الحياة. وبمعنى آخر فإن الوصول إلى المعرفة أو الحقيقة لا يمكن أن يتم إلا عبر مناهج وأساليب العلوم الطبيعية. إنها مدرسة تعاني من ضيق أفقها المجتمعات الغربية، لكن أرض العرب التي عانت ولا تزال تعاني من الركض وراء كل صرعة، لا تستطيع إلا أن تكتوي بنارها.
وهكذا يجد الإنسان بعض الأخوة الليبراليين وهم يتعاملون مع الدولة القطرية على أنها حقيقة، إذ يمكن قياسها ووصفها. فلها حدود وعلم ونشيد وطني وتعداد سكاني وكرسي في هيئة الأمم المتحدة. أما الأفكار الوحدوية فإنها آراء شخصية لا يمكن أخذها بجدية، إذ أنها عواطف وتوق لا يمكن قياسهما. والأمر نفسه ينطبق على الجبروت الاستعماري في فلسطين وفي العراق. إنه حقائق على الأرض يتمثل في جيوش وقوى تكنولوجية هائلة متفوقة وفي تقدم حضاري كاسح. بينما لا تتعدى المقاومة حدود الغضب والتوق للحرية وكره الذل والعبودية، وهي ما لا يمكن اعتبارها حقائق على الأرض يمكن قياسها، وبالتالي لا يمكن التعامل معها بجدية.
والنتيجة المنطقية أننا، من أجل أن نكون عمليٍّين متعاملين مع الحقائق لا الأفكار، علينا أن ننسى الأحلام والأشواق الوحدوية والتطلعات والأحاسيس التحررية. أي علينا ، كما يدعون، أن نكون واقعيين، فالواقع هو محكوم بالحقائق لا بالعواطف المشروعة ولا بالأفكار التي حركت تاريخ البشرية.
والواقع أن القائمة تطول. فالمعارضة السياسية يجب أن لا تزيد عن إبداء وجهة النظر والاستجداء للقوى العربية المتسلطة. والتغيير سيأتي في جميع الأحوال فلا حاجة للعجلة ولا حاجة للاصطدام والفعل الجماهيري. أما العولمة فأنها قدر لا مفر منه وعلينا التعامل معها من خلال آلياتها ومعاييرها.
نحن إذاً أمام مدرسة مجد الحقائق الباردة وتحتقر الأفكار التي تسعى إلى تغيير تلك الحقائق. وتجاوزها إلى حقائق أفضل وأنبل. إنها مدرسة تقدٍّس العقل ولا تأبه بالعواطف والمشاعر والتوق الروحي. إنها محكومة بالنظرات النسبية، بالتطرف نحو الفردية، باعتبار الوجود طبيعة صماء. فلا محل للثوابت القيمية والأخلاقية والعقيدية.
نحن أمام مدرسة إن قويت ستنسف التاريخ والجغرافيا والثقافة والفنون وأحلام المستقبل في حياتنا العربية، وهي مدرسة تجد لها صدى يتسع تدريجياً لأنها تخرج من ركام الهزائم والانتكاسات والأفعال الشنيعة. لكنها حتماً لن تنقلنا إلى ساحات الحرية والعدالة والسعادة الإنسانية.