يمكن القول إجمالا إنه ما من شعار من شعارات الفكر العربي الحديث كان- وما يزال- مدعاة للبس وسوء التفاهم كشعار"العلمانية". وذلك لعدة أسباب:
1- منها أن هذا الشعار نفسه يحيل لفظه إلى مضمون لا يشكل جزءا، لا كبيرا ولا صغيرا، من الموروث العربي الإسلامي، الشيء الذي يجعل تحديد معناه يتطلب أول ما يتطلب كتابة تاريخه في تجربة تاريخية أخرى لا يجمعها مع التجربة العربية الإسلامية فضاء حضاري واحد، وذلك إلى درجة أنه يستحيل وضع مقابل صحيح ومقبول باللغة العربية للفظ الذي يعبر عن ذلك المضمون في موطنه سواء في ذلك لفظ "اللائكية" أو لفظ "السيكولارية" ... وقد بينا هذا في المقال السابق.
2- ومنها أن مضمون أو مضامين هذا الشعار مرتبط بظاهرة دينية حضارية لا وجود لها في التجربة الحضارية العربية الإسلامية، وأكثر من ذلك يشجبها الإسلام ويفصل نفسه عنها. أعني بذلك ظاهرة "الكنيسة" بوصفها جهازا تراتبيا هو المرجع في الشأن الديني يمارس سلطة روحية على الأفراد في مقابل السلطة الزمنية التي للحكام وينازعه عليها: الدولة تملك أبدان الناس والكنيسة تملك أرواحهم. وهذا لا يتأتى إلا في المجتمع الذي يكون فيه الدين مبنيا، لا على العلاقة المباشرة بين الإنسان والله، بل على علاقة تمر عبر "رجل الدين"، الرجل الذي يتخذ العمل الديني مهنة ووظيفة، ويرتبط تنظيميا بهيئة دينية عليا تعتبر نفسها المشرع الوحيد في ميدان الحياة الروحية... وغني عن البيان القول إن هذا الوضع غريب تماما عن الدين الإسلامي وأهله: فالدين الإسلامي قوامه علاقة مباشرة بين الفرد البشري وبين الله، فهو لا يعترف بأي وسيط، وليس فيه سلطة روحية من اختصاص فريق وسلطة زمنية من اختصاص فريق آخر.
3- هذا من حيث مضمون الشعار وعدم ملاءمته لمعطيات التجربة التاريخية والدينية العربية الإسلامية. أما من حيث الظروف التي طرح، ويطرح، فيها هذا الشعار فأقل ما يقال فيها أنها تتغير بتغير "الزمان"، مما يجعل منها لا ظروفا متأصلة في الواقع العربي بل مجرد استجابة أو رد فعل لطارئ من الطوارئ، حتى إذا خف هذا الطارئ أو زال فقد هذا الشعار مبرره وتراجعت الحاجة إليه. وهذه أمثلة:
أ- طرح شعار "العلمانية"، أول ما طرح، في المشرق العربي الحديث، في منتصف القرن التاسع عشر. وكان الذين طرحوه هم مفكرون مسيحيون من الشام (سورية ولبنان)، وكانت الشام يومئذ، مثلها مثل معظم الأقطار العربية المشرقية خاضعا للدولة التركية العثمانية التي كانت تحكم إمبراطورية واسعة باسم "الخلافة الإسلامية" (صراحة أو ضمنا). وهؤلاء العرب الذين نادوا بـ "العلمانية" يومئذ إنما أرادوا التعبير، بكيفية متواضعة خجولة، عما عبر عنه بعد ذلك، بقوة وصراحة، مفكرون وسياسيون عرب آخرون حينما حملوا شعار "الاستقلال عن الترك". ثم حدث أن التقى الشعاران، أو التياران، في شعار واحد وتيار واحد، هو ما عبر عنه بتيار "العروبة"، ثم بـ "القومية العربية". وإذن فشعار "العلمانية" طرح في العالم العربي في ارتباط عضوي مع شعار "الاستقلال عن الترك". وبما أن "الاستقلال عن الترك "كان يعني في نفس الوقت قيام دولة عربية واحدة (على الأقل في المشرق، أي في الولايات العثمانية العربية) فقد ارتبطت المفاهيم الثلاثة ببعضها ارتباطا عضويا: العلمانية والاستقلال والوحدة، لتعني شيئا واحدا هو قيام دولة عربية في المشرق غير خاضعة للسلطة العثمانية. ومن هنا جاء تبني الفكر القومي العربي لشعار العلمانية الذي كانت دلالته ملتبسة كما قلنا بمضمون شعار الاستقلال والوحدة. وعندما قامت حركة منافسة تطرح شعار "الجامعة الإسلامية"، وكان ذلك في الغالب نوعا من المعارضة لاستقلال الأقطار العربية عن الترك، وبإيعاز وتوجيه من السلطات العثمانية، عندما حدث ذلك، أخذ التعارض يتبلور بين اتجاهين، اتجاه يدعو إلى جامعة إسلامية بزعامة الأتراك، واتجاه يدعو إلى دولة عربية أو اتحاد عربي. ولم يكن يقصد دعاة "العروبة"، هؤلاء، استبعاد الإسلام ولا الدين. إن شعار "العروبة" رفع في وجه سياسة "التتريك" العثمانية، كما هو معروف.
ب- وطرح هذا الشعار من طرف مفكر عربي مسيحي من رواد النهضة العربية الحديثة في إطار آخر، غير إطار الدعوة إلى "الاستقلال عن الترك" بل إطار اتقاء شر الطائفية. يقول: "وما دام قومنا لا يميزون بين الأديان التي يجب أن تكون بين العبد وخالقه، والمدنيات التي هي بين الإنسان وابن وطنه أو بينه وبين حكومته، والتي عليها تبنى حالات الهيئة الاجتماعية والنسبة السياسية، ولا يضعون حدا فاصلا بين هذين المبدأين الممتازين طبعا وديانة، لا يؤمل نجاحهم في أحدهما ولا فيهما جميعا كما لا يخفى". ومن هنا: "وجوب وضع حاجز بين الرياسة، أي السلطة الروحية، والسياسة، أي السلطة المدنية. وذلك لأن الرئاسة (الدينية) تتعلق ذاتا وطبعا بأمور داخلية ثابتة لا تتغير بتغير الأزمان والأحوال، بخلاف السياسة فإنها تتعلق بأمور خارجية غير ثابتة وقابلة للتغير والإصلاح بحسب المكان والزمان والأحوال. ولذلك كان المزج