يأتي عنوان هذه المقالة عبر استيحاء عنوان كتابٍ صدر منذ سنين في فرنسا (أكاديمية العلوم العسكرية) من تأليف مجموعة من الباحثين العسكريين وغيرهم، ويحمل عنوان "الجيوش غير العسكرية في العالم الثالث". وكان ملفتاً أن هذا الكتاب صدر مترجماً، ولم يجد اهتماماً كافياً به ويغطي ما يليق بأهميته من الحوار العلمي العسكري وغير العسكري، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار أنه يتحدث عن وضعية نموذجية وحيّة في العالم المذكور.
لقد طرح الكتاب المعني مسألة ربما أخذت تظهر راهناً بصيغٍ تنضح بالسخرية والفظاظة والمأساة، خصوصاً على صعيد "الجيوش غير العسكرية" العربية. وقد نستطيع القول إن تكوّن هذه الجيوش جاء، خصوصاً، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث شرعت بلدان عربية في تأسيس قواعد المجتمع الاستقلالي الجديد اقتصاداً وسياسة وتعليماً وقضاءً وإعلاماً، وكذلك جيشاً. لقد ظهر شيئاً فشيئاً أن إنجاز ذلك يشترط القيام بجهود كبيرة باتجاه إرساء القواعد المذكورة، خصوصاً عبر جهودٍ كان على الأحزاب والحركات الوطنية التي أسهمت في تحقيق المجتمع الاستقلالي المنشود، أن تقدمها.
بيد أن ما راح يتضح، تمثّل في محاولات اختراق الحياة السياسية الجديدة بصيغة إقصائها عن الحلبة. وإذ أتت هذه المحاولات من قوى عسكرية انقلابية وعبر رخاوة القوى السياسية والحزبية الجديدة، فقد أخذ يظهر أن هذه القوى لن تكون في مستوى التأسيس للمجتمع المذكور. وحيث نضع ذلك في الاعتبار، ونضع في الحسبان كذلك أن المرجعيات الاجتماعية والسوسيوثقافية والإيديولوجية للجيوش العربية تنتمي -خصوصاً- إلى الفئات الوسطى كما إلى القاع الاجتماعي، فإنه سيظهر المعْلم الرئيس للجيوش إياها، وهو أنها ذات انتماء وطني. وهذا، بالضبط، ما فتح الطريق واسعة أمام مطامح نخب عسكرية مثقفة فيها للدخول في حقل النشاط السياسي: فمن جهة أولى، كانت هذه النخب -ومعها فئات من الشعب- ترى في "الخلاص" في مرحلة الاستقلال، أمراً ممكناً، فقط على أيديها، فهي الفاعلة والمعبّأة والمقبولة وطنياً، في حين أن الأحزاب الجديدة والعريقة كانت تبدو عاجزة عن إنجاز الاستحقاقات الجديدة، أو كان يُراد لها أن تبدو كذلك.
في هذا وذاك، كان الطريق يُعبّد باتجاه إنتاج حال جديد في العالم العربي، يتحدد في محاولات حثيثة لابتلاع المجتمع السياسي المدني الفتيّ، وفي الوقت ذاته في اندفاع نخب عسكرية مثقفة بإيديولوجيا تعبوية نحو امتلاك السلطة السياسية. وإذا كان ذلك قد أخذ يفرض نفسه في عدد من الجيوش العربية، بتحفيز خفيّ غالباً من قوى سياسية داخلية وخارجية، فإن ناتج القول فيه يتمثل في عملية تحوّل بنيوي أخذت تجتاح تلك الجيوش من جيوش "عسكرية" قامت ببعض الدور في تحقيق الاستقلال الوطني، إلى جيوش "غير عسكرية". أما هذه الأخيرة فتظهر في كونها جيوشاً فقدت انتماءها العسكري ومهماتها العسكرية الوطنية، وظلت -في الوقت نفسه- عاجزة عن إنجاز المهمات السياسية الوطنية، التي كان على القوى السياسية أن تنجزها. وفي هذا وذاك، ظلت الجيوش العربية تحافظ على "بزّتها العسكرية"، دون "هيبتها الوطنية" الضرورية.