في الحقيقة عندما نشرت مقالتي "مستقبل توطين القوة العاملة في القطاع المصرفي"، في 14 سبتمبر الماضي انهال علي سيل من الرسائل والمكالمات الهاتفية، وللأسف الشديد كانت كلها من الأخوة الوافدين العرب وبعضهم كانوا قد عملوا مديرين سابقين في بنوك محلية. وكانت كل تلك الرسائل والمكالمات تحمل جدلاً سفسطائياً يهدف إلى إقناعي بأن التوطين في القطاع المصرفي غير ممكن، وبأن المواطنين يعيشون في رغدٍ من العيش، وليس لديهم الخبرة ولا الاستعداد البدني والنفسي الذي يمكنهم من العمل في المصارف وتحمل المسؤوليات الجسيمة. لذا فإنني أردت أن أفتح ملف هذا الموضوع من جديد لأوضح بعض الملابسات التي تحيط بالقضية، ولأبين ما هي المعوقات التي تعيق عملية توطين القوة العاملة في القطاع المصرفي وما هي الحلول الممكنة. وسوف نتناولها جميعاً في النقاط الآتية:
1- حرمة الربا والفوائد المصرفية. لا شك أن من أهم العوائق التي تعيق عملية التوطين في القطاع المصرفي هي عائق الربا. فلقد أجمعت كافة المجامع الفقهية، منذ المؤتمر الثاني لمجمع الفقه الإسلامي، الذي عقد في الأزهر الشريف عام 1965، وحتى يومنا هذا على أن الفوائد المصرفية الدائنة والمدينة (أي أخذ وعطاء على الودائع والقروض المصرفية) هي ذاتها ربا القروض الذي تحرمه الشريعة الإسلامية تحريماً قطعياً بالأدلة الثابتة الصريحة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. ولقد غلظ الله سبحانه وتعالى في حرمة الربا واعتبره من السبع الموبقات الموجبة لغضب الله، وآذن سبحانه بمحاربة آكل الربا. فمن ذا الذي يجرؤ على محاربة الله سبحانه وتعالى؟ لا شك أن الصحوة الإسلامية التي يشهدها العالم الإسلامي اليوم تجعل الكثير من الكفاءات ترفض العمل في القطاع المصرفي باستثناء العمل المصرفي الإسلامي. فقد ورد في الحديث النبوي الشريف، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن اللهُ آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه" أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في فتح الباري. ومن هذا المنطلق فإن العاملين في المصارف الربوية يعتبرون من الكتاب والشهود على المعاملات الربوية، فضلاً عن كونهم يعينون المصارف الربوية على العمل والنمو والاستمرار. وهذا بحد ذاته يشكل دعماً لاستمرار تفشي الربا في العالم الإسلامي. والحقيقة أن موضوع الربا كبير ومتشعب ولا يمكن حصره في عجالةٍ كهذه. بيد أنه تجدر الإشارة إلى أننا أن وجدنا نمواً في معدلات التوطين في المصارف الإسلامية فإن ذلك دليل على أهمية هذه النقطة التي نطرحها في مجال التوطين، وإن وجدنا تراجعاً في معدلات التوطين فيها فإن ذلك قد يرجع إلى عوامل أخرى كثيرةً سوف نتحدث عنها. وأن العلاج الناجع لهذه المشكلة يكمن في دعم وتشجيع القطاع المصرفي الإسلامي وتوسيع نطاق عمله قطاعياً وجغرافياً ورأسياً وأفقياً، وزيادة فروع المصارف الإسلامية القائمة في داخل الدولة الواحدة وفي الخارج، وإنشاء مصارف إسلامية جديدة. ولعل سياسة تحويل بعض المصارف القائمة جزئياً أو كلياً إلى مصارف إسلامية قد تساعد في دعم عملية التوطين في القطاع المصرفي الإسلامي.
2- إن الأفكار والمعتقدات التي ارتبطت بقضية التوطين، والتي تبنى عليها العديد من الفرضيات عند دراسة هذا الموضوع، مثل الاعتقاد بأن المواطنين مدللين في نشأتهم ويعيشون في رغدٍ من العيش يجعلهم غير قادرين على تحمل مسؤوليات العمل المصرفي، وهم يطالبون بالتالي بتعديل نظام الدوام الرسمي والعطلات وغير ذلك، كما وأنهم يطالبون برواتب وبدلات كبيرةٍ ومميزةٍ، وترقيات سريعةٍ وما إلى ذلك، هي في الحقيقة فرضيات ومعتقدات وأفكار بعضها عاريةُ تماماً من الصحة، والبعض الآخر غير دقيقة. وإن كانت قد تحمل في معانيها شيئاً من الصحة قبل 20 عاماً إلا أنها قطعاً آخذةٌ في التلاشي، إن لم تكن قد تلاشت نهائياً. ومن الأدلة على عدم دقة مثل هذه الفرضيات والمعتقدات كون أن المواطنين قد أثبتوا جداراتهم وقدراتهم وتميزهم وتفوقهم في شتى المجالات المدنية والعسكرية، والتي يحمل العديد منها مسؤوليات جساما تفوق مسئوليات القطاع المصرفي بأبعاد شتى إذا ما أوجدنا معايير دقيقة لقياس حجم المسؤولية. فإذا ما وجد بعض المدللين الرافضين للعمل في القطاع المصرفي فإن ذلك لا يعني على الإطلاق بأن أبناء وبنات الإمارات كلهم هكذا. وهذا في الحقيقة يدفعنا إلى القول بأنه حتى وأن وجدت ظاهرة الدلال المفرط فهي ليست حجة يحتج بها ضد التوطين في القطاع المصرفي إطلاقاً. فنحن في الحقيقة نتحدث عن ضرورة وجود نظام موضوعي دقيق لاختيار العاملين في القطاع المصرفي. وضرورة توازن تلك المعايير مع حجم المسؤولية في هذا القطاع. فلا يجوز أبداً تغليب العواطف وتغليب الشفاعات في تعيين العاملين في القطاع المصرفي. إن المصارف تعمل بأموال المودعين وأن العاملين فيها يتحملون مسؤوليةً جسيمةً، ولا بد بالتالي من بناء طريقة اختيار العاملين فيها على أسس علميةٍ سليمةٍ ومدروسةٍ بعنايةٍ فائقةٍ. وأؤكد