في البداية أود أن أوضح أن موضوع المقالة لن يتعرض للفيلم الأميركي القديم الشهير "الهروب الكبير" الذي خطط فيه بعض أسرى الحرب من الأميركان والبريطانيين للهرب من أسر القوات النازية، ولكنه للأسف اسم مسرحية واقعية وأبطالها حقيقيون وهم القوات الأميركية في العراق، ومخرجها وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، ومنتجها الرئيس الأميركي بوش الصغير. أما باقي أعضاء الإدارة الأميركية فهم يقومون بدور الكومبارس الذين لا يشاركون بأدوار مؤثرة، ووجودهم مثل عدمه. فوسط الانفلات الأمني الطاغي في العراق، وعجز القوات الأميركية والشرطة العراقية عن فرض الأمن والاستقرار، وبدلاً من اعتراف وزارة الدفاع الأميركية بخيبتها في العراق، نصطدم في مطلع الأسبوع الماضي بالطلعة التليفزيونية البلهاء للغبي رامسفيلد وتصريحاته الأكثر غباء ليعلن على الملأ: أن العراق لم يكن يوماً آمناً وينعم بالسلام بشكل كامل، وليس من المتوقع أن يصبح كذلك أبداً، لذلك قد يكون بمقدور الولايات المتحدة البدء في سحب قواتها من العراق قبل إحلال السلام بشكل كامل. ثم عاد وأكد ذلك في حديث له مع قناة "فوكس نيوز" قائلا: إن الولايات المتحدة ليست مجبرة على البقاء طويلاً في العراق. انتهت التصريحات الرامسفيلدية العنترية، ولكن من المعروف أن الذي يكذب ينسى، لذلك فقد نسي أنه أعلن قبل تصريحاته بساعات أن البنتاجون سيرسل مزيداً من القوات إلى العراق إذا طلب قادة القوات الأميركية في العراق ذلك.
منذ تفكير الرئيس بوش الصغير في غزو العراق وإطاحة الطاغية صدام حسين ونظامه وتكليفه للمعنيين في إدارته بالاستعداد لهذا الغزو منذ نهاية عام 2001 بعد صدمة أحداث الحادي عشر من سبتمبر، التي أعتقد صدقاً أنها أفقدت الجميع صوابهم، بدأت أحداث مسرحية كوميدية ثقيلة الظل، وجميع أحداثها غير مترابطة، وتصريحات أبطالها المتناقضة تتسم بمساحة واسعة من الحركات البهلوانية الهزلية والحوارات العبثية.
تبدأ فصول المسرحية عندما طلب المنتج بوش الصغير من إدارته الاستعداد لضرب العراق من دون سابق إنذار، فعمل الجميع بجد لإعداد السيناريو والحوار وإخراج العمل بصورة تليق بالقوة العظمى الوحيدة في العالم، ورغم انشغالهم بإدارة عمل مصيري آخر في أفغانستان لمواجهة أسطورة ابن لادن، ومطالب التنسيق مع الحلفاء والأصدقاء والأعداء والعملاء، بدأت التحضيرات الأولية لفكرة الغزو.
كانت الاتهامات جاهزة، قدمها على طبق من ذهب نظام شيطاني متسلط حكم العراق برئاسة صدام حسين، حيث أظهر في مناسبات مختلفة إصراره على إحياء وهمي لبرامج الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية، وعمل جاهداً على خرق قرارات الأمم المتحدة ورفض الانصياع لقرارات مجلس الأمن، وتوقف عن التعاون مع لجان الأمم المتحدة لتجريده من أسلحة الدمار الشامل التي استخدمها ضد شعبه أولاً، قبل أن يستخدمها ضد جيرانه، ورفض الاستماع إلى جميع النصائح المخلصة بالتنازل عن الحكم أو الاستجابة إلى مقررات المجتمع الدولي أو إبراز حقيقة الوضع العسكري المتردي في الجيش العراقي بعد أن ظل تحت الحصار لأكثر من 12 عاماً، ولكنه أبى وأعلن امتلاكه لطائرات من دون طيار تصل إلى واشنطن، ظهر فيما بعد أنها مصنوعة من ورق، مثلما كانت زعامته كذلك.
لذلك أصبحت الأدلة الوهمية جاهزة لتعطي بوش الصغير وإدارته الفرصة ليستغلوا الموقف، ويحاولوا حشد العالم على غرار ما حدث في حرب الخليج الثانية، ولكن لأن معظم الحلفاء كانوا أكثر ثقة في خيبة صدام حسين، حاولوا كسب الوقت، فطالت فصول المسرحية لتشمل مجلس الأمن الدولي، ما بين انعقاد جلسات، ومناقشات مطولة، وانقسام العالم إلى فسطاطين، وكانت النتيجة ذهاب المفتشين الدوليين إلى العراق ليعلنوا عدم اكتشاف برامج لأسلحة الدمار الشامل· ولكن حتى نستكمل فصول المسرحية جرى النقاش داخل الإدارة الأميركية نفسها بين من يريد مزيداً من الجهد السياسي ومن يريد العمل العسكري، وبدأ الصراع بين وزارتي الخارجية والدفاع، فانفصل العمل الدبلوماسي عن العمل العسكري قبل أن تقوم الحرب.
وجاء تكليف المخرج الغبي رامسفيلد لتستمر المسرحية، فما يقوله اليوم يعدله غداً، وما يصرح به غداً، يتراجع عنه بعد غد، مما نقل الصراع إلى داخل البنتاجون بين العسكريين ورامسفيلد، ولكن في ظل الأهداف الأخلاقية للحرب من إزالة نظام ديكتاتوري لرفع المعاناة عن الشعب العراقي لينعم بالحرية والديمقراطية ويصبح نموذجاً يحتذى به في العالمين العربي والإسلامي، تلاشت الصراعات وتقررت الحرب وفق رؤية المخرج الرئيسي رامسفيلد يساعده مخرج تنفيذي هو الجنرال تومي فرانكس.
وأدى كل ذلك إلى نتيجة إيجابية واحدة هي زوال النظام البائد لصدام حسين، ولكنها قادت في الوقت نفسه إلى تداعيات سلبية عديدة مرجعها الأساسي عدم وجود خطة أميركية واقعية وعملية لفترة ما بعد الحرب، ومن أهم هذه التداعيات: (1) انتشار الفوضى الأمنية وحالة عدم الاستقرار. (2) تراجع الخدمات وانهيار مستوى المعيشة. (3) أصبح العراق