بعد رحلة خمسين ميلا أو أكثر في أعماق الفضاء، توقفت المركبة الفضائية SpaceShipOne في الطبقة السوداء عديمة الوزن، الواقعة فوق صحراء ماجويف. وقد جاءت هذه الخطوة، تتويجا لجهود ثمانية أعوام متواصلة من العمل، وأربع دقائق من القلق على مصير اللحظة الحاسمة لكل ذلك الجهد. وفي النهاية فقد تحقق الفوز بجائزة العشرة ملايين دولار، المخصصة للتصميم الهندسي". وفي نهاية الأمر، فقد أصبحت المغامرات والكشوفات الفضائية، متاحة لمشاركة رجل الشارع العادي، رمزيا على الأقل. وإن كان ثمة شيء وحيد لا يزال مثيرا للقلق بشأن هذه الرحلة، فهو ما الخطوة التالية التي سوف تعقبها؟ فمن عدة زوايا، يمكن النظر إلى تجربة هذه المركبة الفضائية، كما لو كانت عودة ماضوية إلى فكرة الكبسولة الزمنية، بكل ما تعنيه من إبهار وخوف معا. فمما لا شك فيه أن المهندسين الفضائيين، يبدؤون عملهم في هذا العصر الفضائي الحديث، وكأنهم يخوضون تجربتهم الأولى في هذا المجال، لكونها بداية من الصفر تقريبا. والمقصود هنا، أن المسؤولية الهندسية والتقنية الحديثة، تفرض على هذا الجيل الحديث من المهندسين الفضائيين، واجب تحويل رؤاهم وأفكارهم الهندسية النظرية، إلى ممارسة وتطبيقات عملية، تترجم في شكل مركبات فضائية حديثة، غير قابلة للسقوط أو الاحتراق، مثلما حدث في المآسي السابقة التي وقعت قريبا.
تعليقا على هذا التحدي الكبير، قال هوارد ماكاردي أستاذ تاريخ الرحلات الفضائية البشرية في الجامعة الأميركية بواشنطن، إن هذا يبدو كما لو كانت عودة جديدة إلى عصر "تشك ييجر" الذي تم فيه توظيف واستخدام الأدوات والماكينات بطاقتها القصوى، مع الحفاظ على خصائصها الأولية البسيطة في ذات الوقت. وقد بدت الرحلة التي أنجزتها المركبة الفضائية SpaceShipOne يوم الاثنين الماضي، وكأنها مستلة مباشرة من كتب التصميمات الهندسية الجامعية. وقد فاز بالجائزة المذكورة أعلاه، بيرت روتان الذي اضطلع بتصميم المركبة الفضائية، موضوع هذا المقال. غير أن رحلة الاثنين هذه، كانت الرحلة الثانية التي تبحر فيها المركبة في الفضاء، وهي تحمل على متنها ثلاثة ركاب، على مدى أسبوع كامل. هذا الشرط الأخير هو المطلوب لتلبية شروط المنافسة لنيل جائزة "إكس" للتصميمات الهندسية، فضلا عن تأسيسها لما يأمل المنظمون لهذه التجربة فيه أن يكون بداية عملية لتصميم المركبات الفضائية المأمونة الرخيصة، التي يمكن أن يعول عليها في مجال الأبحاث والكشوفات الفضائية البشرية. غير أن التجربة لا تزال في مراحلها الأولية، ولا يعنى خلوها من العيوب والأخطاء أنها حققت ذلك الوعد، وأنه يمكن الاطمئنان عليها بالكامل. جانب آخر مهم لا يمكن إغفاله في هذه التجربة، ألا وهو أن الكابتن ويليام دان، يعتبر من أكثر الطيارين الفضائيين حظوة بالإطراء لدرجة أنه لم يكن هناك أنسب منه ولا أكثر جدارة لقيادة تلك المركبة التي لا تزال تحت التجريب والاختبار.
وبالنسبة لفجر هذا العصر الفضائي الجديد، فإن أهم معيار لاختيار طياري الرحلات التجريبية، يتمثل في قدرتهم على التعامل والتصرف في حالات الطوارئ. ولك أن تتخيل مدى الصعوبات والمخاطر التي تكتنف هذه الرحلات التجريبية، خاصة وأن المركبة تطير إلى مرتفعات تزيد على 300 ألف قدم على الأقل، مما يتسبب بارتفاع الضغط داخلها وحولها إلى درجة لا تصدق. يقول الطيار دان في وصف هذه الحالة: ففي تلك اللحظات من الرحلة، تشعر بأن قلبك يضغط بقوة على جوانب قفصك الصدري، وأن كل ما هناك يؤلمك ألما لا يطاق. يذكر أن الرحلة التجريبية الأولى للمركبة SpaceShipOne نفسها، لم تخل من تعقيدات ومآزق اختبارية، تمثلت في أن المركبة كانت تمضى بسرعة عالية، عندما نشأت في نظام قيادتها، مشكلات تتعلق بالتوجيه، فانحرفت عن مسارها لوقت ومسافة، ليسا بالقصيرين. كان ذلك قد حدث في شهر يونيو من العام الجاري. وفي يوم الأربعاء الماضي، كانت المركبة قد تدحرجت وتقلبت كثيرا، مما اضطر الطيار لقطع احتراق الوقود عنها، إلا أن المركبة استأنفت مسيرها بعد ذلك وأنجزت مهمتها كما هو متوقع لها. أما المصمم روتان، فقد بادر إلى وصف هذه التعقيدات، بأنها مشكلات تصميمية ثانوية، لا تقلل من كفاءة المركبة ولا من قدرتها على القيام بمهامها على أحسن ما يكون.
إلى ذلك يقول إيد سوليسكي أستاذ علوم الطيران بالمدرسة القومية الأميركية لاختبار الطيارين: إنهم يحققون طفرة نوعية غير مسبوقة في مجال الطيران. ولا تشبه فرادة اللحظة هذه، إلا حقبة الستينيات من القرن الماضي، من حيث السبق والمبادرة إلى ارتياد الجديد. ولكن لا يزال علينا أن ننتظر ما سوف تسفر عنه هذه اللحظة في نهاية الأمر. أما إن حدثت أية أخطاء أو ظهرت أية نقاط ضعف أو عيوب في الأداء، فإننا هنا لتقويمها ومعالجتها.
من نواح عديدة، فإن روتان وزملاءه، يعملون على إحياء قيم أخلاقية عفا عليها الزمن، منذ وقت ليس بالقريب. إذ لم تعد المركبات بذلك الأمان الذي يدفع الطيارين للمغامرة، ويحفز فيهم الرغبة الجامحة في ا