يعد كتاب "البدو" لمؤلفه المستشرق ماكس فون أوبنهايم من أجلّ الدراسات وأكثرها عمقا وتوسعاً في فهم القبائل البدوية ودراستها وفق منهج تاريخي واجتماعي واقتصادي وسياسي وأنثروبولوجي متكامل وفعال، وهو حصيلة أكثر من سبعين عاماً من العمل والملاحظات والتسجيلات الشخصية التي قام بها المؤلف ومساعدوه في عين المكان. وقد صدر جزأه الأول والثاني في حياة المؤلف أوبنهايم ومساعده ارش برونيلش، أما الجزءان الثالث والرابع فقد أخذا عشرين سنة أخرى لكي يُبصرا النور، بعدما اشرف عليهما ونقحهما وأضاف إليهما إضافات مهمة البروفسير فرنر كاسكل. ويقدم كتاب "البدو" الذي صدرت ترجمته العربية الأولى في الآونة الأخيرة عن "دار الوراق للنشر" في لندن، بأجزائه الأربعة، معلومات وافية وشاملة وفريدة من نوعها عن تاريخ القبائل وأصولها وأنسابها وهجراتها والترابط القائم بينها. ويصنفها إلى مجموعات بحسب مناطقها الجغرافية في مساحة تتوزع بين العراق وسورية والحجاز ونجد والأحساء والكويت وقطر والبحرين والإمارات والأردن وفلسطين وسيناء، فضلا عن قسم آخر يعيش داخل تركيا وإيران. ويهتم كذلك بدراسة الجانب التضاريسي والمناخي وعناصر الإنتاج الاقتصادي في كل منطقة جغرافية معينة، ويستعرض تاريخها قديما وحديثا، وأهم الأحداث السياسية التي شهدتها، ويتابع حركة انتقال القبائل العربية وانتشارها بتسلسل زمني حتى يصل إلى قبائل الحقبة الحديثة باحثا في أصلها وهجراتها وقدومها إلى المنطقة موضوع البحث.
وإلى جانب البحث الميداني وما سجله مع مساعديه من ملاحظات خاصة، جمع المؤلف العديد من مصادر بحثه في ألمانيا، وتعامل مع كم هائل من المعطيات المتناثرة في عشرات الأعمال التاريخية والجغرافية وفي كتابات الرحالة والإحصائيات بأنواعها، وتقارير الحجاج المسلمين والمسيحيين المكتوبة بلغات الشرق والغرب، ورجع إلى دواوين شعرية في مقدمتها ديوان جرير في هجاء الفرز دق؛ لأن أحد أجداد قبيلته كان يعمل بالحدادة، كما يستشهد بابن المقرب حين يهجو المعادي والهتيم ويصفهما بصفات تعكس نظرة اجتماعية تجاه مراتب المجتمع.
وقام أوبنهايم أيضا بتسجيل صيحات الحرب الخاصة بكل قبيلة، ورسم وسمها الذي يميز ملكية المواشي، فأصبح لدينا مرجع في رسوم الوسم وصيحات الحرب، ودلل المؤلف بصيحات الحرب وميسم المواشي على صلة نسب القبائل بعضها ببعض، وربط من خلال ذلك بين شمر طوقة وشمر جربا.
ويذكر اوبنهايم أنه سار باتجاهين في إعداد الكتاب: أولهما إنجاز دراسة وافية للحياة المادية والثقافية للبدو، بما في ذلك علاقتهم بالمواشي والأرض ومواسم انتجاعهم وأنماط غذائهم وطرق العلاج لديهم، وثانيهما متابعة أعرافهم وعاداتهم ومراقبة حياتهم داخل الأسرة والقبيلة وحيال المنتسبين إليهم وتدوين مأثورات وأساطير قبائلهم، وما يتعلق بالحياة الداخلية كالأعراف والأعراس وتقاليد الزواج وسلطة الشيوخ وحق الضيافة والحماية وشتى مظاهر الحياة الدينية.
واتسم أوبنهايم بالموضوعية وبحبه للعرب والبدو منهم بشكل خاص، فضلا عن احترامه للإسلام، لكنه مع ذلك لم يسلم بكل الملاحظات التي سجلها ميدانيا أو المعلومات التي توفرت لديه، بل كان يخضعها للتمحيص وأسلوب التشكيك حتى يدحضها أو يثبت صحتها. ففي جداول القبائل نجد هوامش تشير إلى المصادر التي اعتمدها لاسم كل قبيلة وتفرعاتها والطريقة التي تحقق بها من صحة المعلومة.
يتألف الكتاب من أربعة أجزاء، يتضمن كل منها خرائط تظهر توزع وانتشار وتواجد القبائل وشجرات أنسابها. فالجزء الأول الصادر باللغة الألمانية عام 1939 يتناول القبائل الرحل وشبه الرحل في العراق "الشمالي" وسوريا، وعلى رأسها قبيلتا عنزة وشمر، فيستغرق في بحث تاريخ وأصول القبيلتين، إضافة إلى قبائل طيء وجحيش وزبيد والجبور ودليم والوشعبان وعقيدات وجيس والبوعساف وعدوان وبقارة وحرب وشرابين والنعيم وحديدين. ومن قبائل وعشائر سوريا التي يتناولها هنادي وحديدين والموالي وبني خالد وفواعرة ونعيم وعمور وعرب السلوط وعرب الجبل وعرب الصفاة وعرب فضل وسردية والفحيلي.
أما الجزء الثاني فصدر أيضا بالألمانية عام 1943، ويتناول قبائل فلسطين وسيناء والأردن والحجاز. فالأولى تضم قبائل الشمال في أريحا والساحل وقبائل الداخل كالشمالنة والكعابنة والمساعيد والرشايدة والتياها. أما قبائل سيناء فأهمها الترابيون والسواركة والجبالية والتياها، وغيرها. ومن قبائل الأردن سرحان وبني خالد والعدوان وقبائل الكرك والعمرو والشوبك وغيرها.
وأخيرا قبائل الحجاز التي منها هذيل وحرب وعنزة وبنو فهيم وعدوان وحرب وبنو عطية.
وفي الجزء الثالث الذي تولى الإشراف عليه فرنر كاسكل وحده بعد موت المؤلف وأصدره بالألمانية عام 1953، نجد أنَّ الكتاب تضّمن بعض المعلومات كانت غير متوفرة في حياة أوبنهايم، وشمل منطقة شمال ووسط الجزيرة العربية، بما في ذلك نجد والأحساء والكويت وقطر والإمارات والبحرين. وفي هذا الجزء يتضح أن البداوة تتجلى بألمع صورها في وسط وشرق شبه الجز