في القرآن الكريم آية تقول "يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم". ويقتضي اعتناق النظرية التي تقول إن نشوء الأحياء كلها من خلية واحدة يمكن أن يعني أن هناك اعتقادا بوجود فروقات أقل عدداً وأهمية بين المجموعات العرقية لأن منشأها كلها واحد. وهذا هو موضوع الكتاب الجديد الذي أتى بعنوان "العرق: واقع الاختلافات البشرية"، وهو من تأليف "فينسنت ساريتش" و"فرانك ميل". ونجد في هذا خلطاً ما بين الأصوليين المسيحيين مع الليبراليين الذين يتبعون مساراً قويماً. فالمجموعة الأولى تؤمن بأن الله خلق البشرية كلها من امرأة واحدة ورجل واحد لكي يعمروا الأرض. أمّا المجموعة الثانية وهي التي تؤمن بتعدد أصول الخليقة فتؤمن بأن المجتمع في حاجة دائمة إلى إصلاح دائم وتطهير من الأخطاء. وتشكّل نظرية نشوء الخليقة من أصل واحد معقلاً آمناً هنا، لكنها تُجبر المدافعين عنها على الإيمان بتلك الحاجة إلى الإصلاح مما يترافق مع الاختلافات الاجتماعية وغيرها.
ويشكل هذا النسخة العلمانية للمحاولة الجادة التي بذلها المؤلفان بغية شرح كيفية تحولنا نحن البشر كلنا إلى مؤمنين بنظرية الأصل الواحد للبشرية، أي من آدم وحواء عليهما السلاّم، وبحسب ما ترويه كل الكتب السماوية المنزّلة من السماء.
"فينسنت ساريتش" هو أستاذ فخري لمادة الأنثروبولوجيا في جامعة كاليفورنيا "بيركلي"، أما "فرانك ميل" فهو كبير المحررّين في مجلة "سكيبتيك". وفي هذا الاقتران بين هذين الرجلين ما يجعل هذا الكتاب أكثر من مادة ممتعة للقراءة وغنية بالحقائق. فكيف يمكن شرح وتفسير الفكرة الحديثة نسبياً التي تقول بتطوّر الاختلافات بين أعراق البشر؟ يقول المؤلفان إن مدة 40 ألف سنة هي فترة طويلة نسبياً لكي يقال إن الأعراق البشرية قد تطوّرت فيها وطورت إمكانيات عالية التمايز والاختلاف استناداً إلى الواسمات الفيزيائية الواضحة.
وهنا نجد منزلقاً خطراً يقوم المؤلفان باستكشافه دون خوف، وهما يحملان اعتقاداً راسخاً بأن معرفة وفهم الحقائق سوف يطلقنا ويحررنا من القيود التي نرسف فيها. وهل من الصعب أن نتخيل أن الأشخاص الذين يبلغ حاصل ذكائهم 70، على سبيل المثال، قادرون على تشكيل نظام اجتماعي فيما بينهم؟ طبعاً، هذا ليس صحيحاً. ولا يمكن أن يعني إصراراً على الملاحظة التي تغمز من قناة بعض الشعوب أو الجماعات أو الفئات أو الملل، أو تنتقص من شأن أي منها. فكلنا عباد الله الواحد الأحد، وكلنا من أصل واحد، وكل منا ميسّر ليعمل على شاكلته، وكل يعمل على قدر ما يفهم من هذه الدنيا.
ويبدو أننا نستطيع بسهولة أن نقبل بالحقيقة التي مفادها أن الهنود الذين يتمتعون بحاصل ذكاء قدره 85 يتفوقون على الأميركيين في ميدان التكنولوجيا والمهارات العالية. لكننا اخترنا أن نتجاهل مضامين الأعداد الأقل، وإلى درجة أن برنامجاً يقبل أو يقدم تفوقاً إلى الأقليات هو أمر ليست له أهلية تعريف ماهية الأقلية اعتماداً على التعريفات المختبرة ذاتياً، أو على لقاء شخصي يتم فيه إعطاء الاعتبار إلى "الاسم والأسلوب والكلام وصياغة العبارات أو المظهر الشخصي في أثناء مقابلة أو عملية تكيّف".
ويستشهد المؤلفان بتحقيق في سلسلة من جرائم القتل التي تمت فيها مقابلة عدد من المشتبه بهم استناداً إلى افتراض مفاده أن هؤلاء السفاحين مرتكبي هذه الجرائم هم من "الذكور البيض البشرة الذين تتراوح أعمارهم ما بين 25-35" سنة. وقد تجاهل المسؤولون أمراً شديد الأهمية وهو الشهود الذين حلفوا أغلظ الأيمان على أن القاتل هو شخص أسود البشرة".
وقال المؤلفان إن المسؤولين والمعنيين تجاهلوا أن واسمات حامض "دي إن إيه "من النوع الذي يشير إلى أنها تعود لشخص له أصول أميركية بنسبة 15%. ويشكل هذا مثالاً ثانوياً نسبياً إلى ماهية القوى التي يمكن أن يتم أخذها بعين الاعتبار بموجب الآراء العرقية المقولبة الجاهزة، لكن ذلك يؤدي خدمة مهمة لتأسيس النقطة التي مفادها أن معرفة المزيد والاعتراف بأن الأساس الموضوعي لما نعرفه هو منطق فطري عام. فإذا كان هناك طفل في الثالثة من عمره قادر على تمييز العرق والاختلافات بين الجنسين، ويفهم أن هذه الاختلافات من غير الممكن دحضها، فما الذي يمكن عمله؟
ويقدم المؤلفان ثلاثة سيناريوهات اجتماعية-سياسية استنادا إلى الاستنتاجات. ويوحي هؤلاء بقوة بأن المجتمع يستند إلى المبادرة الفردية سوف يكون في المدى الطويل أفضل من تلك المستندة إلى إعادة الفصل بين الأعراق. ولكنهما يشيران في أية حال إلى أن مجتمعاً يستند تمام الاستناد إلى نجاح الطموح الشخصي والقدرة الشخصية سوف يؤدي إلى نشوء فجوة ما بين الفقراء والأغنياء، هذا باعتبار أن حاصل الذكاء الأعلى والطموح والنجاح الاقتصاديين أمران مرتبطان ارتباطاً وثيقاً.
وهذا الكتاب سوف يولّد الكثير من الجدل كالكتب السابقة التي أتت في الميدان نفسه. هذا على رغم أن المؤلّفين من الواضح أنهما عقدا العزم على جعل الموضوع م