يزداد انشغال العراقيين بالانتخابات يوماً بعد يوم، فقد اقترب موعدها الذي حدده قرار مجلس الأمن 1546، وهو آخر ديسمبر القادم أو نهاية يناير 2005 على الأكثر. ولعل أكثر ما يشغلهم هو إمكان إجراء هذه الانتخابات في ظل استمرار الاضطراب الأمني في بعض المناطق. فالسؤال عما إذا كانت الانتخابات ممكنة يكاد يرادف الاستفهام عن مستقبل العراق، ولا مبالغة في ذلك، لأن إجراء هذه الانتخابات يعني وضع العراق على طريق السلامة، والعكس.
ولذلك ففي الوقت الذي ينتظر العراقيون المساعدة من المجتمع الدولي، لا يجدون في الغالب إلا تشكيكاً في إمكانية إجراء الانتخابات. وقد لفتت افتتاحية "الاتحاد" في عددها الصادر يوم الخميس الماضي 30-9-2004 الانتباه إلى ما يسببه هذا التشكيك من إحباط للعراقيين، ودعت إلى المساعدة في معالجة المشكلات وتقديم حلول بدلاً من بث اليأس وتسجيل مواقف سياسية تصب الزيت على النار. وهذا هو ما يفترض أن يفعله، بصفة خاصة، العرب الذين يشارك كثير منهم -للأسف- في حملة التشكيك ووضع العراقيل أمام الحكومة المؤقتة والشعب العراقي. فإذا كانت فرنساً، مثلاً، اختارت أن تواصل تصفية حساباتها مع الولايات المتحدة على حساب الشعب العراقي، فكفى العرب الذين فعلوا ذلك على مدى نحو عام ونصف العام إساءة إلى العراق وإلى مستقبل علاقات بلادهم مع شعبه.
لقد وصل الوضع في العراق إلى مفترق طريقين: فإما استعادة الاستقرار واستكمال بناء النظام الجديد، أو شيوع الفوضى وصولاً إلى نوع من "الصوملة" لفترة يصعب تقدير مداها.
ولذلك تبدو الأيام القادمة في العراق هي الأهم على الإطلاق منذ إسقاط النظام السابق.
لقد وضع القرار 1546 برنامجاً زمنياً للعملية السياسية يستغرق عاماً ونصف العام. بدأ هذا البرنامج بنقل السيادة إلى حكومة عراقية مؤقتة في 30 يونيو الماضي، والمفترض أن ينتهي في موعد لا يتجاوز 31 ديسمبر 2005 عند تشكيل حكومة عراقية منتخبة على أساس دستوري.
ولكن الخطوة الأكثر أهمية وحسماً في هذا البرنامج الزمني هي إجراء أول انتخابات عامة مباشرة في آخر ديسمبر 2004 وفيما لا يتجاوز 31 يناير 2005، لاختيار حكومة انتقالية جديدة تشرف على صوغ الدستور الدائم.
فإذا أمكن إجراء هذه الانتخابات سيكون العراقيون قد صاروا قادرين على استكمال العملية السياسية بسلام، بالرغم أن العنف لن يتوقف في نهاية العام الجاري ولا العام القادم. ولكن ثمة فرقاً جوهرياً بين عنف يشل الحياة ويقيد الحركة، وعنف يضرب من وقت إلى آخر دون أن يحدث تأثيراً قوياً يوقف التطور السياسي والاجتماعي.
وهذا هو فحوى الاختبار الحاسم في العراق خلال الشهور الثلاثة القادمة. غير أن السؤال الرئيس اليوم هو: إذا لم يتيسر إجراء الانتخابات في بعض المناطق التي تسيطر عليها مليشيات مسلحة أو تعيش في ظل اضطراب أمني مستمر أو شبه مستمر، فما مشروعية وشرعية العملية الانتخابية حين تستثنى منها هذه المناطق؟ السؤال كبير وملح، وقبل ذلك واقعي جداً. وتتوقف إجابته على حجم المناطق التي ستؤجل فيها الانتخابات ونسبة الناخبين فيها إلى إجمالي الهيئة الناخبة.
والملاحظ، هنا، أن ثمة خطأ ومبالغة في الحديث المتكرر عما يسمى منطقة "الوسط السني". فالأجزاء التي ينعدم فيها الأمن على نحو يستحيل معه إجراء الانتخابات الآن تقع جغرافياً في غرب العراق أو قل إنها منطقة الوسط الغربي تحديداً، والتي تشمل محافظة الأنبار بشكل خاص. وقد لاحظ الكاتب العراقي سامي شورش أن المدن التي يجوز تصنيفها على أنها الأكثر ارتباطاً بالنظام السابق، مثل تكريت مسقط رأس صدام حسين والدورة مسقط رأس عزة الدوري صارتا هادئتين تماماً.
وتنبع أهمية هذه الملاحظة من أنها تدل على أن الجماعات الأصولية المتطرفة، وفي مقدمتها "التوحيد والجهاد" و"أنصار الإسلام" هي التي تقوم بالدور الرئيس الآن في العمليات المسلحة بغض النظر عن حجمها وعدد أفرادها. فقط اطلعت على عدة تقارير صحفية أميركية في الأسابيع الأخيرة تحدثت عن أن معظم "المقاومين" عراقيون. ويبدو أن كاتبي هذه التقارير يظنون أن العراقيين لا يمكن أن ينضموا إلى جماعات "الإرهاب" الأصولي أو لا يعملون معها! فقد جندت هذه الجماعات الكثير من العراقيين في الشهور الماضية وحتى بافتراض أن عدد منتسبيها قليل، فالعبرة في هذا النوع من حرب العصابات المنفلتة من أي معايير أخلاقية أو سياسية ليست بالكم بل بالتنظيم المحكم والاستعداد للانتحار.
وهناك ما يدل فعلاً على أن المدن الأكثر استعصاء على الحكومة العراقية والقوات متعددة الجنسيات، تعيش الآن في أجواء ثقيلة أقرب ما تكون إلى ما فرضته حركة "طالبان" في أفغانستان. فالمليشيات المسلحة تفرض فيها أحكاماً تنسبها إلى شريعة الله البريئة منها.
غير أن سطوة هذه الميليشيات قابلة للتراجع تدريجياً لسببين: أولهما أن النجاح البطيء الذي تحققه اتصالات رئيس الحكومة المؤقتة مع قادة بعثيين وعشائريين من أنصار النظام السابق يجعل مليشيات التطرف الأصولي وحدها