لقد أصبحت تسجيلات الفونوغراف "الحاكي" أثرا من آثار الماضي. أما الكاميرات التقليدية، فقد أصبحت ملقاة في خزانات الملابس كي يتراكم عليها الغبار، في حين تحولت ساعات الحائط ذات العقارب إلى تحفة غريبة.
حسناً. ولكن ما هو الشيء المشترك بين هذه الأشياء؟ الشيء المشترك بينها هو أنها كانت تعتمد على التقنية التناظرية Analog Technology قبل أن تأتي التكنولوجيا الرقميةDigital Technology، التي تتميز عنها بالسرعة الهائلة والدقة البالغة، كي تزيحها تدريجيا وتستولي على قطاع كبير من السوق.
كان من المفروض أن يكون ذلك هو نهاية التاريخ بالنسبة للتطور التكنولوجي قبل أن يدرك العلماء أن التقنية الرقمية قد جاءت وهي تحمل معها تحدياتها الخاصة.
من تلك التحديات ذلك الذي يواجه هؤلاء الذين يقومون بتصميم المنتجات الرقمية، والذي يتمثل في أنه ليس هناك إنسان يتعامل مع موجودات العالم الواقعي على أنها عبارة عن نماذج مكونة من الرقم( 1) والرقم ( صفر) فقط. فالعالم الواقعي أو الطبيعي، وفقا للمصطلحات الهندسية، هو عالم تناظري Analog بشكل كامل، يتكون من أمواج صوتية وضوئية متغيرة بشكل لا نهائي، ومن درجات حرارة وضغط متغيرة على الدوام، ومن حقول مغناطيسية متنقلة.
لذلك فإن الشيء الذي حدث ولم يكن متوقعا، هو أن الثورة الرقمية قد أدت إلى نشوء طلب كبير على الإليكترونيات التناظرية المتطورة. وعالم الإليكترونيات التناظرية، لمن لا يدركه جيدا، هو عالم سري تقوم فيه عشرات الآلاف من المنتجات بترجمة الواقع على هيئة (أحاد) و(أصفار) لأجهزة الكمبيوتر، ثم تعيد ترجمة النتائج الرقمية إلى أشكال يمكن للبشر إدراكها.
ففي الكاميرات "الديجيتال" أو الرقمية على سبيل المثال، تقوم الشرائح التناظرية بترجمة الأطوال الموجية، إلى رمز كودي رقمي. وإذا ما كان المصور يريد فحص الصورة، فإنها تقوم بترجمة الكود إلى عرض بصري. أما الشرائح التناظرية، أو التي هي مزيج من التناظرية والرقمية، فتقوم بتنظيم وظائف التوقيت، كما تقوم بأعمال الترشيح (الفلترة) للإشارات المختلفة، وتكبير الصور، وتشغيل البطاريات وغير ذلك من وظائف.
وليس هناك شركة استطاعت فهم التفاعل بين التقنية التناظرية والتقنية الرقمية بشكل أفضل مما قامت به (تكساس إنسترومينت كوربوريشين)، التي قامت في أواخر التسعينيات باستثمار أموال ضخمة في الأجهزة التناظرية، جنبا إلى جنب مع منتجاتها الرقمية التي كانت قد بدأت في ذلك الوقت تحقق بروزا واضحا. وفي العام الماضي، تمكنت هذه الشركة من تجاوز باقي الشركات المنافسة، كي تصبح أكبر شركة في العالم في مجال شرائح التناظرية، الذي يبلغ حجم الأموال المستثمرة فيه 26.8 مليار دولار.
"إن معظم الناس يعتقد أن العالم قد تحول إلى النظام الرقمي وأن النظام التناظري قد أصبح بالتالي شيئا عفا عليه الزمن... وهذا ليس صحيحا". هذا ما يقوله "جريج إيه لوي" النائب الأول لرئيس الشركة الذي يشرف على معظم أنشطتها التناظرية. وفي الحقيقة أن صناعة أشباه الموصلات "Semiconductor" التناظرية قد تحولت لتصبح هي النشاط الرئيسي للشركة المذكورة حيث حققت 40 في المئة من إجمالي أرباحها.
وعندما يقوم مديرو الشركة بالتباهي بمنتجاتهم المتمثلة في الهواتف الخلوية، والكاميرات الرقمية، والأجهزة الموسيقية اليدوية، والمشغلات الفيديوية فإن الشيء الأول الذي يشيرون إليه هو ما يعرف باسم "معالج الإشارات الرقمي". وهي المعالجات التي تقوم بمعالجة الأصوات والصور، مع استهلاكها كميات من الطاقة تقل بنسبة 30 في المئة عن "المعالجات المصغرة" التي تعرف باسم Microprocessors، التي تستخدم على سطح المكتب.
وعلى رغم أن مشغلات الإشارات الرقمية والمشغلات المصغرة هما نجما تقنية المعلومات الحالية، فإن المديرين في الشركة المذكورة يجعلون من الأجهزة التناظرية سمة ثابتة في تلك العروض والمحاضرات.
"إن المنتج التناظري الواحد يحقق ربحا سنويا يتراوح ما بين مليون إلى 2 مليون دولار في المتوسط" هذا ما يقوله "جراي جراندبوا" المحلل الرئيسي في شركة "سانتا كلارا" في كاليفورنيا وهي شركة أبحاث سوقية. ويضيف "جرندبوا" إلى ذلك قوله "لذلك فإن أي شركة إليكترونية سوف تكون بحاجة إلى إنتاج عدد ضخم من المنتجات التناظرية، حتى تتمكن من تحقيق أرباح جيدة".
بناء على ذلك ندرك أن الشركات التي تتاجر بحجم ضئيل من المنتجات التناظرية، لن تتمكن من تحقيق أرباح ذات شأن. ولكن خبراء التسويق يقولون مع ذلك إن تلك الأرباح- على ضآلة حجمها- ستتجاوز بكثير تلك التي يمكن تحقيقها في قطاعات أخرى من قطاعات تجارة أشباه الموصلات.
وهكذا فإن الشركات العاملة في مجال التقنية التناظرية، يمكنها أن تحقق قدرا من الأرباح لا بأس به من خلال التجارة في تلك المنتجات التي ينظر إليها من قبل الشركات التي تقوم بإنتاج منتجات رقمية على أنها منتجات متخلفة ولم يعد لها مكان في العالم الحديث.
وشركة "تكساس إنسترومينت" تقوم بتصنيع المعالجات الإليكترونية