كان التعليم في أيامنا مختلفاً عما هو عليه اليوم، كانت للمعلم هيبته وكان طابور الصباح درساً في الوطنية والتوجيه المعنوي والتربية على الولاء وحب الوطن، لكن التعليم هذه الأيام أصبح يسوق مستقبل الأبناء إلى عوالم مجهولة، وكأنه يدخلهم نفقاً مظلماً في سوق عمل قوية وشرسة. هذه بعض أفكار استطعت أن التقطها من مكالمة عاتبة على مقالة الأسبوع المنصرم، شن المتحدث فيها هجوماً شرساً على العبد الفقير متهماً إياه بالمحاباة ومجاملة وزير التربية وتبرئة ساحته من مجمل ما تتعرض له الوزارة والعملية التعليمية من نكسات.
متصل فاضل وضع كثيراً من الملح في جنبات جرحنا التربوي، مؤكداً أن مشكلة التعليم في الإمارات ليست وليدة الفترة التي استلم فيها معالي وزير التربية الحالي مقاليد إدارة دفة سفينة التربية، وسط موج متلاطم من التغيرات، وعواصف مرعدة تنذر بخطر قادم، وتوجهات أيديولوجية حاولت جاهدة الاستيلاء على المدرسة والمنبر والميكرفون والكاميرا. وأردف محدثي قائلاً:كان التعليم الحديث في بداياته بسيطاً نقياً وجاء ليخلف التعليم التقليدي في الكتاتيب، فكانت المدارس الأهلية بشيوخ العلم فيها مصدراً لتعلم مبادئ العبادات ومداخل فك الخط والحساب. وعندما جاء الاخوة من فلسطين والقاهرة وعمّان وبغداد، وبدعم أخوي من حكومة الكويت، ظهرت المدارس النظامية وتأسس جيل جديد، جيل مؤمن بانتمائه لأمة العروبة ومتمسك بدينه الإسلامي وفق ضوابط الشرع وما تعارف عليه الأهالي من علاقة حميمية بين الحاكم والمحكوم في نظام اعتمد على الشفافية في تسيير أمور الرعية.
ما أن لاحت بوادر استخراج زيت الأرض الأسود، وبدء تدفق الثروات وحرص الحكومات على استثمار جزء من هذه الهبة في التعليم، حتى شيدت المدارس واستقطب رجال التعليم وتدفقت الكتب المدرسية من الكويت، وسارت أمور التعليم على ما يرام، فقد كانت الأهداف واضحة جلية والنوايا صادقة لقهر الجهل الذي خلفه الاستعمار. الحرص على التعليم محاولة جادة وصادقة لمساعدة إنسان هذه الأرض على الخروج من ظلمات الجهل.
كانت بدايات الستينيات من القرن المنصرم تحمل في جنباتها إرهاصات ما ستؤول إليه العملية التعليمية في الإمارات، فقد أدت عمليات مطاردة فلول تنظيم "الإخوان" المسلمين في مصر بعد حادثة إطلاق النار على جمال عبدالناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية يوليو 1954، وما تعرض له تنظيم "الإخوان" في سوريا وغيرها إلى فتح جبهات جديدة للتنظيم في دول الخليج ومنها الإمارات، ولأن التنظيم يمتلك منهجاً واضحاً وأهدافاً محددة، فقد هيمنت مجموعاته على الجهاز التعليمي في الإمارات، وكانت وزارة التربية والتعليم وهي لا زالت هشة البنيان، هدفاً سهلاً وصيداً ثميناً لأصحاب تلك التوجهات الفكرية التي كانت تقدم رؤيتها السياسية تحت غطاء من شرعية العمل الديني مستغلة العواطف الجياشة لأبناء الإمارات، وتعاطفهم مع الخطاب الديني الذي كان مغلفاً بتوجهات أقل ما يقال عنها إنها توجهات مؤدلجة تنظر إلى المستقبل البعيد من خلال تربية جيل يصر على الاختلاف مع الآخر ومؤمن بأهمية ذبح وقتل كل من يختلف معهم.
لم يكن حال الجامعات رغم حداثة إنشائها أفضل من ذلك، فقد شهدت مدرجاتها صراعاً بين التنظيم والقوى المستنيرة، وكانت كتب سيد قطب "في ظلال القرآن" و"معالم في الطريق" توزع في المدرجات والسكن الداخلي للطالبات والمطعم والمكتبة، وكان من نتائج سيادة أدبيات التنظيم في صفوف طالبات الجامعة بروز حركة مضادة لتوجهات المجتمع قادتها شخصيات نسوية عربية من أقطاب تنظيم "الإخوان" المسلمين في السودان ومصر، وبعواطف وجلسات غسيل الأدمغة والخوف من عذاب القبر زادت حالات الاكتئاب النفسي والوساوس القهرية، وتحولت الطالبات من الحجاب إلى النقاب وازداد الرفض لكل ما هو عصري، وقويت شوكة التنظيم وتدخل رموزه في أمور المنهج الدراسي واختيار الأساتذة وملاحقة وتشويه سمعة الأساتذة عند اختلاف الطرح، فقد كان التنظيم يقر بعدم وجود مساحة للحوار.
في أكثر من محفل تصدى نفر من المخلصين لهذا الوطن لهذه الهجمة المنظمة، وأمكن كبح جماح هذا الفكر من التغلغل في وجدان أبناء الإمارات، ولكن متغيرات دولية أثبتت أن تلك البذرة استطاعت أن تنمو وتكبر لتطرح مجاهدين يذهبون لأفغانستان لقتل العدو الشيوعي والعودة بمفاتيح الجنة أو الموت شهداء! وكثرت صناديق جمع أو تسول التبرعات ولا يعلم أحد أين كانت تذهب وفيما استخدمت.
على الصعيد الإعلامي لم ينجح التنظيم كثيراً إلا من خلال بعض المريدين من أصحاب العمائم أو البدل الفرنسية وربطات العنق الإيطالية، من الوصول إلى الشاشة أو الميكرفون مقدمين خطاباً عاطفياً يستدر الدموع، وإثارة الهواجس بتخيل أهوال يوم القيامة وحجاب الممثلات، ولكن لأن المساجد مفتوحة والمساجد أماكن للعبادة والعلم معاً، فقد استنفرت خلايا التنظيم كل جهودها للاستيلاء على المنبر ومصادرة حق تقديم الدعوة والإرشاد في خطب الجمعة إلا بما يتوافق وتوجهات الفكر المؤدلج، وقد كان من نت