قد نتعرف قريباً إلى نمط من المؤتمرات يبلغ مؤداه حتى قبل انعقاده، وبمجرد الإعلان عن نية عقده، وبعد أن ينعقد قد يبدو أنه لم يكن. هذا ما يبدو أنه سيكون مصير المؤتمر الدولي من أجل العراق، يتساوى في ذلك أن يلتئم في القاهرة أو في أي عاصمة أخرى، لماذا؟ لأن فكرته انبثقت أساساً من السجال الانتخابي في الولايات المتحدة، ولأن التحضير له يوحي بأن الإدارة الأميركية الحالية واثقة بأنها باقية، بدليل أن المؤتمر العتيد مدعو إلى الانعقاد بعد الانتخابات، صحيح أن هذه الإدارة مستمرة في أي حال إلى مطلع السنة المقبلة، وأن الملف العراقي سيبقى مفتوحاً وساخناً حتى لو انتخب رئيس آخر غير جورج بوش، إلا أن المؤتمر هذا يريد أن يرد على مآخذ جوهرية بأن إدارة بوش عزلت نفسها في معالجتها للمأزق العراقي.
طبعاً، الأمر ليس كاريكاتورياً إلى هذا الحد، لكن طرح الفكرة والترويج لها والبدء باستخدام المؤتمر كأنه إنجاز استحق أن يتحدث عنه الرئيس بوش في مناظرته مع منافسه جون كيري... كل ذلك دلّ مجدداً إلى استمرار العشوائية في المعالجات الأميركية، وذكّر الجميع بأن الولايات المتحدة -بعد مرور 18 شهراً على احتلالها للعراق- لم تبنِ بعد سياسة عراقية لها، بل لا يزال يظهر يوماً بعد يوم أن حقائق البلد تجاوزت كل توقعاتها، ولعلها خططت أصلاً للذهاب إلى بلد آخر. لذلك فهي بحاجة إلى أي جهد وأي مساهمة، وإلى أي إطار يمكن أن يقحم الآخرين في مستنقع ملّ الأميركيون البقاء فيه وحدهم.
ولمن يعتقد بأن في هذا الكلام مبالغة أن يلتفت إلى ما قاله وزير الخارجية المصري عن المؤتمر، قال، ببساطة، إنه سينعقد عندما يتفق على "هدفه". فهو ليس مختصاً بتمويل إعادة الإعمار، ولا بأمن الحدود، ولا بالشأن السياسي الداخلي في العراق. إذاً فهو مدعو إلى النظر في البيئة الإقليمية التي لا تبدو مساعدة إيجابياً في تطبيع الأوضاع العراقية. وبهذا المعنى، يكون هذا المؤتمر اللازم والضروري قد تأخر كثيراً، بل انتظر حتى فعل احتلال العراق فعله في تسميم تلك البيئة الإقليمية وتوتيرها وإفسادها. ولا شيء يؤكد أن مؤتمراً كهذا مرشح لتنقية الأجواء، وإذا لم يكن هذا هدفه فمن الصعب تخمين أي هدف مجدٍ آخر، وبالتالي سيتحول المؤتمر إلى فرصة أخرى ضائعة.
لكن، بعيداً عن أي توقعات متشائمة، يمكن القول إن لقاء الدول الثماني الكبرى زائد الصين زائد دول الجوار العراقي يوصي بجدية مستحقة. هذا يفترض أولاً أن الدول الكبرى توصلت إلى وفاق حول الشأن العراقي، وهو ما لم يحصل إلا شكلاً، كما يفترض أن دول الجوار توصلت إلى قواعد مشتركة لكيفية التعايش مع الكابوس العراقي. نحن إزاء مجموعتين تعاني كل منهما هواجس وهموماً متناقضة، ولكل دولة في أي من المجموعتين مقاربة مختلفة للمأزق العراقي. وعدا الولايات المتحدة تتشارك الدول الأخرى -مع استثناءين أو ثلاثة- في أنها مرتاحة بشكل أو بآخر إلى الورطة الأميركية في العراق. أما مشاركتها في هذه الورطة فتخضع لشروط شتى. هناك دول حاسمة أمرها، فلا جنود إلى العراق ولا حتى لحماية بعثة الأمم المتحدة. وهناك دول تريد أن تسمع شيئاً عن المغريات، وهناك دول باتت مستفيدة من الوضع العراقي ولا يسرّها أن تدخل دول أخرى على الخط لتقاسمها الفوائد.
من حيث المبدأ يقول الجميع علناً إنهم يدعمون بقوة نهوض الدولة في العراق، ويريدون المساهمة في إنجاح الانتخابات، ويبدون كل استعداد لأي مساعدة. لكن، كيف؟ خصوصاً إذا كانت أي مبادرة مدعوة للعمل تحت المظلة الأميركية، وخصوصاً إذا كان الوضع لا يزال -ولا داعي للاستغباء- احتلالاً متوارياً خلف حكومة يعترف أعضاؤها سراً وعلناً بأنهم يعملون تحت الوصاية.
لكي ينجح المؤتمر الدولي، لابد أن يكون المناسبة التي تعلن فيها الولايات المتحدة عناوين سياسية جديدة. أما إذا انتهزت واشنطن هذه الفرصة لوضع قواعد سلوك إقليمية متكيفة مع الاحتلال، فإن المؤتمر قد يتحول منبراً لاستشراف حروب أخرى مقبلة. في أي حال سيكون تعامياً مفتعلاً وغير موضوعي بتاتاً أن تجتمع كل هذه الدول من دون أن تلتفت إلى نزاع ساخن في فلسطين يتداخل بالضرورة بالشأن العراقي.