عوامل الجذب والطرد في الوطن العربي والعالم الإسلامي كثيرة ومتعددة. إذا قوي المركز في الوسط في دمشق وبغداد والقاهرة جمّع حوله الأطراف في أفريقيا وآسيا. وإذا ضعف المركز في القلب تشتت الأطراف نحو عناصر جذب أخرى. وفي حالة الخطر الراهن بتقسيم الوطن العربي والأمة الإسلامية إلى دويلات عرقية، عرب وبربر وأكراد وتركمان وزنوج أو طائفية، سنية وشيعية وإسلامية وقبطية، يتم البحث في مقومات الوحدة داخل ثقافة الأمة عبر التاريخ لتستمد عناصر قوتها منها، في عالم تتوحد فيه القوى التقليدية مثل أوروبا، بل ويتوحد فيه العالم باسم العولمة وتحت ذريعة العالم قرية واحدة، وثورة الاتصالات، ونهاية التاريخ، والعالم ذي القطب الواحد، وصِدام الحضارات الذي يكتب فيه النصر لحضارة واحدة متفوقة على باقي الحضارات. صحيح أن التعاون الإقليمي مهم على مستوى المعاهدات الثنائية أو مجالس التعاون الإقليمية أو لجان التنسيق بين جارتين بل وحتى المؤسسات الإقليمية كالجامعة العربية والمنظمات المنبثقة عنها، ومنظمة المؤتمر الإسلامي. إلا أنها محدودة الأثر. تتم بين الحكومات والدول أكثر مما تستفيد منها الشعوب. فمازالت قوائم الممنوعين من السفر عبر الحدود العربية تطول باستمرار، وسوء معاملة المواطنين من قطر عربي في قطر عربي آخر. بل ويصل الأمر إلى قطع العلاقات، وغلق الحدود. بل ويبلغ الأمر إلى حد العبث بالحرب الأهلية بين جارتين أو بعدوان جار على جار آخر. أما اتفاقية الدفاع العربي المشترك فلا مضمون لها. فالعدوان الإسرائيلي على فلسطين منذ أربع سنوات يزداد كل يوم. والعدوان الأميركي على العراق واحتلال أراضيها منذ عام ونصف مازال قائماً. وتهديد السودان وسوريا كل يوم.
يبدو أن المداخل السياسية والاقتصادية والعسكرية لا تساهم إلا في أضيق الحدود. لم يبق إلا الوجدان والتاريخ والثقافة والهم المشترك والمستقبل البعيد. قد تنهزم الأمة عسكرياً، وقد تضعف اقتصادياً وسياسياً ولكنها ثقافياً وأدبياً مازالت صامدة منتجة مبدعة في الشعر وفنون الأدب بل وفي الفنون الجديدة التي تعلمها العرب مثل الفنون التشكيلية وأبدعوا فيها.
لقد عرفنا قديماً وحدة التاريخ العربي الإسلامي. ففي كل أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي هناك مرجعيات تاريخية واحدة، وأطر نظرية واحدة، ومعايير لتحقيب التاريخ واحدة. الكل يبدأ بظهور الإسلام وانتشاره، وتحقيب الدول التي تعاقبت عليه من الخلافة الراشدة عبر الأمويين والعباسيين والعثمانيين أو دول الأمصار مثل الفاطمية والأيوبية في مصر والساسانية والبويهية في إيران، والصنهاجية والمرينية في المغرب العربي. ومسار التاريخ وتحقيبه الثلاثي واحد، من الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي وطورها الأول حتى ابن خلدون، ثم عصر الشروح والملخصات بعد ابن خلدون حتى الإصلاح الديني وفجر النهضة العربية منذ مائتي عام، ثم العصر الحاضر الذي كبا فيه الإصلاح وتعثرت فيه النهضة ومحاولة إقامة إصلاح ديني ثان، ونهضة عربية ثانية تستأنف مشروع الإصلاح والنهضة والثورة الأول من أجل إعادة تحرير الأرض، وحرية المواطن، والعدالة الاجتماعية، وتوحيد الأمة، والتنمية المستقلة، والهوية، وحشد الملايين.
مازال الجميع يستلهم سِير الأبطال منذ الصحابة الأوائل والقادة الفاتحين شرقاً مثل سعد بن أبي وقاص في القادسية، وشمالا مثل خالد بن الوليد في الشام، وغرباً مثل طارق بن زياد عابراً أفريقيا إلى أوروبا. وفي لحظات الضنك والعجز والامتهان وضياع الكرامة وقبول الضيم تبرز إلى الأذهان من اللاوعي التاريخي صور صلاح الدين ومحمد علي وعبد الناصر.
مازال الجميع يتساءل عن حاضر الوطن العربي ومستقبله. وتكون الإجابة في استدعاء الماضي أكثر من تحليل الحاضر أو استشراف المستقبل. فالماضي حاضر أكثر من الحاضر. والمستقبل في يد الله الذي حفظ هذه الأمة وذكرها (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). وهي خير أمة أخرجت للناس. اكتملت عندها الرسالة وتحققت فيها النبوة.
لا يكفي حمل التاريخ المشترك عن طريق استدعاء الذكريات الواحدة، والحكم بأطر مرجعية واحدة. بل هناك أيضاً المقومات الثقافية الواحدة التي تحافظ على وحدتها ضد مخاطر التجزئة والتفتيت. فالفرق الإسلامية منتشرة في كل مكان، سنة وشيعة وإباضية ودرزية بل وأحمدية في أفريقيا وبهائية في الغرب، وإمامية وإسماعيلية في آسيا وفي الغرب. والمذاهب الفقهية واحدة منتشرة في كل ربوع الأمة المالكية في المغرب العربي، والشافعية في مصر، والحنفية في العراق والشام وتركيا وأواسط آسيا، والحنبلية في شبه الجزيرة العربية في الصيغة الوهابية، وفي السودان مع المهدية. وحكماء الإسلام عرب وعجم. الكندي عربي، والفارابي تركي، وابن سينا والرازي من فارس "لو كان العلم في الثريا لناله رجال من أهل فارس". والتصوف والطرق الصوفية وحدت الأمة بين مصر والمغرب مثل أبي العباس المرسي، والسيد البدوي، وبين مصر والشام مثل عبد الغني النابلسي، وبين تركيا وأواسط آسيا مثل النقشبندي، و