إذا كانت الولايات المتحدة قوة لا نظير لها في العالم -وربما في تاريخ الإنسانية- فإن الأمم المتحدة سلطة لا غنى عنها للعالم وللإنسانية.
أن تتمتع الولايات المتحدة بمثل هذه القوة فإن ذلك لا يعطيها حقاً في ممارسة سلطة موازية لقوتها على العالم. وأن تكون الأمم المتحدة مفتقرة إلى القوة فإن ذلك لا يعفيها من مسؤوليتها المعنوية في الوقوف بوجه أي تجاوز لشرعتها أو للقانون الدولي. فاستعمال القوة العسكرية ضد أي طرف في المجتمع الدولي لا يكون مقبولاً ما لم يستمد شرعيته من المنظمة التي تمثل دول وشعوب العالم كله. فهي وحدها المخولة بموجب ميثاقها أن تحكم على أي إجراء أو موقف بأنه شرعي أو لا شرعي. وهي وحدها التي تعطي لأي طرف دولي الحق في أن يدّعي أن ما يقوم به هو لمصلحة المجتمع الدولي والسلام العالمي.
تفرض هذه الحقائق البديهية نفسها في ضوء التجاذب القائم بين القوة الأميركية والشرعة الدولية ممثلةً بالأمم المتحدة، عشية البحث في إعادة النظر في صيغة لتشكيل مجلس الأمن الدولي. ذلك أن ألمانيا واليابان والبرازيل ومصر وجنوب أفريقيا رشحت نفسها لدخول المجلس والتمتع بحق ممارسة النقد.
تتجاذب المنظمة الدولية بعد الحرب على العراق ونتيجة لها ثلاث مجموعات دولية؛ تتألف المجموعة الأولى من الولايات المتحدة وبريطانيا اللتين قررتا منفردتين الحرب بمعزل عن الأمم المتحدة وخلافاً لإرادتها ، واللتين تصرّان على تحجيم دور الأمم المتحدة في مرحلة ما بعد الحرب. ولذلك لم يتراجع الأمين العام "كوفي عنان" عن تأكيد موقفه المبدئي باعتبار الحرب على العراق حرباً غير مشروعة وبالتالي غير مبررة. وتتألف المجموعة الثانية من الدول التي حاولت منع الحرب بانتظار اكتمال مهمة المفتشين الدوليين عن أسلحة الدمار الشامل (التي لم يُعثر لها على أثر باعتراف أميركي وبريطاني رسمي) وهي فرنسا وألمانيا والصين والاتحاد الروسي، وإلى جانبها الأمين العام للمنظمة.
أما المجموعة الثالثة فتتألف من معظم دول العالم الأخرى التي لا تتمتع بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن ولا تملك بالتالي حق النقض. ذلك أن هذه الدول باتت تخشى على نفسها من أن تشكل الحرب على العراق سابقة تعطي الدولة القوية (أية دولة) حق شنّ حرب دفاعية ضد الدولة الأضعف (أية دولة). كما فعلت أستراليا مثلاً عندما هددت دول الجوار (ماليزيا وأندونيسيا والفلبين) بعد الجريمة المروعة التي وقعت في جزيرة "بالي" وذهب ضحيتها عدد من السياح الأستراليين.
وثمة شعور لدى دول هذه المجموعة من الدول بأن قدرة الأمم المتحدة على فرض القانون الدولي وتوفير مظلة تقيها من مغامرات الدول القوية بدأت تتآكل، وأن الولايات المتحدة لم تلوِ فقط ذراع المنظمة في العراق، ولكنها كسرته أيضاً. وهذا يعني أن الاعتماد على الشرعية الدولية كمظلة واقية تحفظ الحقوق وتصون سيادات الدول الأخرى قد بدأ بالتلاشي أو على الأقل بالتداعي.
لقد ثبت الآن رسمياً أن قرار الحرب على العراق كان على جدول الإدارة الأميركية منذ أن وصل الرئيس جورج بوش إلى البيت الأبيض، وأن جريمة 11 سبتمبر 2001 التي استهدفت برجيْ التجارة العالمية في نيويورك ومبنى البنتاغون في واشنطن، لم تكن سبباً بل كانت مبرراً.
لا يستطيع عاقل أن يدافع عن النظام العراقي السابق. ولكن المبررات التي وظفت لشنّ الحرب على العراق تجردت من كل صدقية لها عندما تبين أن العراق لم يكن يملك أسلحة دمار شامل، ولم يكن يملك صواريخ لإطلاقها إلى أي مكان ولم يكن على علاقة بتنظيم "القاعدة". وأن دوائر الاستخبارات في واشنطن ولندن كانت تعرف ذلك، وأنها اختلقت هذه المبررات وبالغت فيها لتغطية قرار متخذ سلفاً بالحرب.
من الثابت أن للثنائي الأميركي - البريطاني (بوش - بلير) أهدافاً من وراء هذه الحرب وهي "إعادة تركيب الشرق الأوسط". وقد أُعلن عن هذه الأهداف علناً مراراً وتكراراً من واشنطن ولندن على حد سواء. وإذا كان الحكم السابق في العراق قد سقط -غير مأسوف عليه- فإن الأسف والقلق الشديدين يلفان العالم كله حول مصير ومستقبل منظمة الأمم المتحدة.
في عام 1945 ألقى الرئيس الأميركي الأسبق "هاري ترومان" خطاباً أمام المؤتمر التأسيسي لمنظمة الأمم المتحدة الذي كان منعقداً في مدينة "سان فرانسيسكو"، قال فيه:"علينا جميعاً أن نعترف وبصرف النظر عن حجم قوانا أننا يجب ألا نمنح أنفسنا حق القيام بما يحلو لنا دائماً".
في ذلك الوقت كانت الولايات المتحدة تخرج من الحرب العالمية الثانية باعتبارها المنتصر الأكبر. لم تسقط عليها قنبلة واحدة. كانت مصانعها تعمل على مدار الساعة. وكان حجم اقتصادها يبلغ نصف حجم الإنتاج العالمي كله. وكانت قواتها منتشرة في مشارق الأرض ومغاربها. وفي الأسبوع الماضي، ألقى الرئيس الأميركي الحالي جورج بوش خطاباً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة برّر فيه منطق الحرب الاستباقية التي شنّها على أفغانستان وبعد ذلك على العراق. وهو المنطق الذي يبرر في الوقت نفسه الحرب المتواصلة التي يشن