أصبحت السياسة الخارجية الأميركية الراهنة محور مناقشات وانتقادات شديدة من كل جهة في العالم بعد الحرب على العراق، وقد دفع ذلك باثنين من المسؤولين المحافظين السابقين والخبيرين في السياسة الخارجية، "ستيفان هالبر" و"جوناثان كلارك"، إلى استكشاف العوامل التي مكّنت لعصبة صغيرة من الأكاديميين والمفكرين إحكام السيطرة على ميدان السياسة الخارجية الأميركية التي اتصفت بالأحادية في معالجة علاقاتها مع بقية بلدان العالم. "ستيفن هالبر" مسؤول سابق في البيت الأبيض ووزارة الخارجية في عهد كل من الرؤساء "ريتشارد نيكسون" و"جيرالد فورد" و"رونالد ريجان"؛ أمّا "جوناثان كلارك" فهو صاحب باع طويل في الخدمة لدى الهيئات الدبلوماسية البريطانية. ويقدم كتابهما الجديد "أميركا وحيدة: المحافظون الجدد والنظام العالمي" توثيقاً للطريقة التي صعد بها المحافظون الجدد ووصلوا بها إلى مواقع السيطرة والنفوذ في الولايات المتحدة، وبالتالي في العالم. وفي سياق الاتهامات العريضة التي يوجهها الكتاب إلى إدارة الرئيس "جورج دبليو بوش"، يقول المؤلفان إن تيار المحافظين الجدد المتعصب عمل تحت ستار وحجة "الحرب على الإرهاب" لكي يقلب موازين الأوضاع السائدة في الشرق الأوسط وليعيد ترتيب المنطقة وليطلق عقيدة الحرب الاستباقية، وهي العقيدة التي وقع العراق كأول ضحية لها في المنطقة. ولا يقتصر الكتاب على عرض الوقائع الحالية للسياسة الخارجية الأميركية، بل يستعرض تاريخها الطويل الذي امتد لقرنين وتميّز، حتى أمد قريب، باحترام آراء ووجهات نظر حلفاء أميركا والتنسيق معهم.
ويرى المؤلفان في سياق الانتقاد الشديد لإدارة الرئيس "بوش" أنها تسترت وراء "الحرب على الإرهاب" لكي تشن في الخارج حربها على العراق، ولكي تشن في الداخل حرباً شعواء على الحريات المدنية للمواطنين الأميركيين، وهو الأمر الذي يرى المؤلفان أنه ألحق ضرراً بما يسميانه بالشرعية الدولية و"السلطة الأخلاقية" للولايات المتحدة، وهو ما يعتبران أنه أحد أهم العوامل التي دفعت مجموعات كثيرة، من جمهوريين وديمقراطيين، إلى مهاجمة الرئيس "بوش" والنهج الأحادي الذي أبرز أميركا كقوة متغطرسة هي أبعد ما تكون عن الأخلاقية في التعامل مع مشكلات العالم.
ويقدم المؤلفان استقصاءً عميقاً ومفصلاً لآراء وأفكار المحافظين الجدد، وهما يتقصيان بدايات هذا التيار إلى الجذور التي يتجلى منها انشقاق الديمقراطيين لأسباب عديدة منها شعورهم بعدم الارتياح حيال فكرة تنامي عزلة حزبهم في الداخل الأميركي. وبالطبع، لا يأتي الكتاب بجديد عندما يقول مؤلفاه إن المحافظين الجدد يسيطرون على مفاصل الحكم والقرار في إدارة "بوش"، وإن الأكاديميين والمفكرين ذوي النفوذ يدقون طبول الحرب التي لا يخوضونها طبعاً، ومنهم "ماكس بوت" العاشق للحرب والمتعصب لها والذي يتصور أن الولايات المتحدة الآن باتت مثل الإمبراطورية البريطانية التي كانت على الدوام تخوض حرباً ما ضد أحد ما في مكان ما، على حد قول الكاتب "ستانلي كاتلر".
ومن الطبيعي أن يعتبر المؤلفان أن المحافظين الجدد آثروا رفع القيم والنظريات فوق المصالح في سياق تشكيل السياسة الأميركية. وربما يكون المؤلفان قد أوفيا تيار المحافظين الجدد حقه عندما اتهماه صراحةً ودون مواربة بـ"تزوير التاريخ"، هذا باعتبار أنهم تظاهروا بأنهم القائمون الحقيقيون على حفظ وصيانة الشعلة التي أضاءها "ريجان"، وذلك ليدفعوا أجندتهم وبرامجهم التي أرادوا تنفيذها. وهذا ما يطلق عليه المؤلفان وصف "الهجوم الخلفي التاريخي" على "ريجان" بقصد السلب.
وربما يكون من أسباب هجوم المؤلّفَين على المحافظين الجدد أن هؤلاء ابتعدوا عن نهج "ريجان" الذي آثر الالتزام بكبح انتشار الأسلحة وتقليص استخدام القوة العسكرية إلى أدنى حد ممكن مع الابتعاد تماماً عن اللجوء إلى استخدام الأسلحة النووية. وقد تجاهل تيار المحافظين الجدد أيضاً سياسة الرئيس "ريجان" حيال الصين مثلاً، كما تجاهلوا إخفاق التدخل العسكري الأميركي في لبنان عام 1982، لكنهم كانوا مسرورين بقيام "ريجان" بغزو "جرينادا" الذي يرون أنه نحج في إحباط صعود الشيوعيين إلى السلطة هناك. وهؤلاء هم الذين لم يعجبهم أن الرئيس "ريجان" بدا وكأنه يتبع مبدأ الانفراج في العلاقات مع الاتحاد السوفيتي السابق عندما قرّر رفع حظر الحبوب عن الاتحاد السوفييتي.
على أن أهم ما في الكتاب هو ما يتعلق بقيام المحافظين الجدد بالحشد لحرب العراق، باعتبارها تشكل مرحلة فاصلة في السياسة الأميركية وفي حاضر ومستقبل المنطقة ككل. وكان هؤلاء مقتنعين بأن الإطاحة بنظام صدّام حسين ستعني القدرة على جعل السياسات الشرق أوسطية أكثر استجابة وتحقيقاً للرغبات الأميركية في المنطقة. ويتقصى الكتاب جذور الفكرة إلى عقد التسعينيات، أي عندما قدم كل من "دوغلاس فيث" و"ريتشارد بيرل" خطة تتعاون فيها إسرائيل والولايات المتحدة على الإطاحة بالنظام العراقي وأنظمة أخرى في منطقة الشرق الأوسط بموجب مساعدة أميركية علنية