في هذا الكتاب المكرس لدراسة وتحليل نظام الحكم الإسلامي خلال الستة قرون من العصر العربي الوسيط، عمدت المؤلفة "باتريشيا كرون"، إلى دراسة ظاهرة، قلما تمت دراستها على هذا النحو المفصل، وفقاً لمفهوم الدولة وشؤون الحكم في الفكر العربي الإسلامي، وليس وفقاً لمفهومهما الغربي على نحو ما نجد في الكثير من أدبيات الاستشراق، وتناول الظواهر المختلفة التي تخص تاريخ الإسلام والفكر العربي الإسلامي، من زوايا ومنظور غربيين، فتكون الظواهر موضوع البحث، كما المنبت، الذي لا صلة له بجذوره التاريخية والحضارية. ومما لا شك فيه أن القارئ الغربي لهذه الدراسة المكتوبة في أصلها الإنجليزي، سيجد صعوبة لا يستهان بها في فهم نظام الحكم الذي تتناوله المؤلفة، مستقية إياه من مصادره الفقهية والفكرية والدينية الإسلامية، وهو كله مما لا يمت بأدنى صلة لنظام الحكم والسياسة في الغرب. ذلك أن الفرضيات التي يقوم عليها النظامان السياسيان في الحضارتين، جد مختلفة في كليهما، إلى حد التناقض في بعض الأحيان.
لإلقاء ضوء عام على محتويات الكتاب وتبويبه، فقد بدأت الكاتبة بحثها اعتباراً من مرحلة البدايات المبكرة لظاهرة الحكم والدولة العربية الإسلامية، معطية القدر الأكبر من الاهتمام لشرح أصول الحكم نفسها في منظورها الإسلامي، معرجة بعد ذلك، على الخلافات التي نشأت لاحقاً عقب وفاة الرسول صلى عليه وسلم ونموذج دولة المدينة، وهو ما أسمته المؤلفة بالحرب الأهلية الأولى من نوعها في تاريخ الحكم الإسلامي، وما أسفرت عنه- من وجهة نظرها- عن تشكل أولى الطوائف والكيانات السياسية في ذلك التاريخ، وهي فترة التمرد التي ارتبطت بتاريخ الاغتيالات السياسية التي راح ضحيتها الخلفاء الراشدون، وتبلور فيها الصراع حول السلطة والخلافة والإمامة عقب وفاة الرسول.
من هذه المرحلة، تسوق المؤلفة خطى البحث وصولا إلى ظهور الدولة الأموية، الذي لازم تفكك الروابط القبلية القديمة، وبناء روابط وتحالفات اجتماعية جديدة، قوامها وأساسها الولاء السياسي، سواء كان مع الدولة الأموية أم ضدها. ومن وجهة نظر المؤلفة، فإن النظام القبلي القديم، الذي شكل أساساً للعلاقات الاجتماعية بين الجماعات والأفراد، لم يعد ليصلح في أعقاب قيام الدولة الأموية، التي شكلت محوراً للجذب والطرد السياسيين، معها وضدها. فقد أصبح المنطق الجديد للعلاقات هو "من ليس معنا فهو ضدنا"، ولكنه قائم هذه المرة على الولاء السياسي الطائفي، وليس الولاء القبلي. خلال هذه المرحلة، تدرس المؤلفة ظواهر تشكل المجتمع الطائفي، بأبعاده الدينية الفقهية والسياسية.
وهنا يشتمل الكتاب على أبواب مخصصة لدراسة شتى المذاهب والتيارات الإسلامية، ذات المنحى الطائفي السياسي: ظاهرة الخوارج، والمعتزلة، والطائفة الشيعية إبان العصر الأموي. وبالمنطق ذاته، تقف عند علاقة الشيعة بنظام الحكم خلال العصر العباسي، متناولة شتى التقسيمات الداخلية، من زيدية وإمامية وإسماعيلية ... إلخ. وهنا يلاحظ أن المؤلفة، قد أولت اهتماماً خاصاً للتراث الفارسي وتأثيراته على الحضارة العربية الإسلامية، لا سيما ما يتصل منه بشؤون الحكم، والديوان الإداري. لكنها وفي الوقت ذاته، لم تغفل التأثيرات اليونانية، على مستوى الأطروحات الفلسفية الفكرية حول نظرية الدولة وشؤون الحكم، وهو ما تم التعرف عليه وتبادله من خلال ما وصل إلى الحضارة العربية الإسلامية من نظريات ورؤى فلسفية، تعود لكبار الفلاسفة الإغريق: سقراط وأفلاطون وأرسطو عبر نشاط الترجمة الذي كان في أوج ازدهاره في أيام الدولة العباسية.
كما أولت المؤلفة كذلك، اهتماماً مكافئاً، لدراسة المذهب السني، وتأثيراته على نظام الحكم في الدولة الإسلامية، منذ لحظة تأسيسها في صدر الإسلام. في هذا الإطار تكرس المؤلفة الباب الرابع من الكتاب، لدراسة مفهوم العلاقة بين الدولة والمجتمع، متناولة في فصوله الداخلية العناوين التالية: طبيعة الحكم، وظائف الحكم، رؤى الحرية في مفهومها الإسلامي، النظام الاجتماعي. أما في الباب الخامس من دراستها، فتتناول المؤلفة دراسة العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين، أو ما أسمته تحديداً العلاقة بين المسلمين والكفار. ومن أهم ما حواه الكتاب، قائمة بيبليوغرافيا الدراسات الإسلامية وشؤون الحكم في الإسلام، إضافة إلى قائمة أخرى خاصة بالمختصرات المستخدمة في الدراسة ومسرد بالمفردات والتعابير الإسلامية التي لا يوجد لها مقابل لغوي في اللغات الأخرى.
ويعد البحث كما نرى، بمثابة مسح تاريخي شامل للفترة الوسيطة من تطور تاريخ الدولة الإسلامية، وقد اعتمد على ذخيرة معلومات وافرة من المصادر الدينية والسياسية، ذات الصلة بالفكر السياسي الإسلامي. وإذا كانت دراسة المفهوم الإسلامي للسياسة، تحظى اليوم باهتمام ملحوظ في الدراسات الغربية المعاصرة، بسبب اهتمام الغرب عموماً بفهم ظاهرة الإسلام السياسي الراديكالي، فإن في هذه الدراسة مرجعاً لا يمكن القفز عليه، لكل من يجد وراء فهم الظاهرة السياسية عموم