تتزامن نهاية شهر سبتمبر وبداية شهر أكتوبر مع بداية موسم الخريف في معظم أنحاء المعمورة، والفارق الوحيد هو الصورة التي يكتسيها هذا الخريف. ففي الجزء الشمالي من العالم يبدأ تساقط أوراق الشجر بعد أن يتغير لونها وتكتسي ألواناً متنوعة وبديعة. ويهرع معظم الناس للالتقاء بهذه الطبيعة الجميلة قبل أن يأتي فصل الشتاء ببرده القارص حيث تصل درجة الحرارة في كثير من هذه المناطق إلى ما تحت الصفر.
في منطقتنا، فإن الطبيعة ليست بهذه القسوة، وتعتبر بداية الخريف -إذا لاحظناه- موسماً جميلاً لأنه يؤذن بانتهاء فصل الصيف بدرجات حرارته المرتفعة، وبداية الإعداد لبرامج العمل المكثفة والانخراط في روتين قاس من أجل تحقيق الإنتاجية والإنجاز. وتدل بعض الأبحاث العلمية الحديثة على أن طاقة الإنسان في الخريف تكون في مستويات عليا، لأنها تكون قد استفادت من الراحة بين الأسرة وجمال الطبيعة. ولكن لا يزال الاعتقاد الشائع أن زيادة الطاقة الإنسانية والانفتاح على العالم يرتبطان أكثر بموسم الربيع الذي يرمز إلى صحوة وازدهار الطبيعة في أقوى مظاهرها، أما الخريف فهو يرتبط بالتدهور ونهاية الشيء. وتُكرِّس اللغة الغربية هذه الصورة في أوضح معانيها عندما تتكلم عن "خريف العمر" سواء بالنسبة للإنسان أو غيره من الكائنات الحية.
تكاثرت هذه الرموز في ذهني مع الحلول التوقيتي لموسم الخريف، الذي هو يوم 21 سبتمبر، ولكنني توقفت بالنسبة لمنطقتنا عند يوم 28 سبتمبر الذي يرتبط بثلاثة أحداث مهمة على الأقل تشكل الواقع العربي المعاصر. وأكثر هذه الأحداث معاصرة والتي نعيشها الآن هي الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والتي بدأت منذ أربع سنوات، أي في 28 سبتمبر سنة 2000. وعلى خلاف الانتفاضة الفلسطينية الأولى في سنة 1987 والتي حازت على الإجماع في تأييدها منذ يومها الأول على أساس أنها الملجأ الأخير للدفاع عن الحقوق الفلسطينية، فإن الانتفاضة الثانية أثارت بعض التردد من جانب بعض المحللين الفلسطينيين بسبب الارتجالية التي أحاطت بنشأتها، وعدم وضوح الرؤية الاستراتيجية العامة بدلاً من السلوك التكتيكي قصير الأمد. ولكن الانتفاضة استمرت ونجحت في إجبار المحتل الإسرائيلي على الاعتراف - من جانب أكبر محلليه من العسكريين بين اليمين الإسرائيلي- بأن التسوية مع الفلسطينيين لا يمكن تحقيقها بالسلاح فقط، وأن الحل العسكري -إذا كان هذا حلاً فعلاً- مكلف للغاية وأن نتائجه غير مضمونة العواقب. التكلفة بالطبع - مالياً، عسكرياً وسياسياً- للجانب الفلسطيني أعلى بكثير، وعندما نأتي للتفاوض والوصول للتسوية، فسيكون من الواجب تقييم هذه الانتفاضة الثانية في ضوء النتائج التي يتم تحقيقها. وأتمنى أن يكون هذا اليوم قريباً حيث يتوقف مسلسل الدم والتدمير بين أفراد الشعب الفلسطيني الذين يعانون وحدهم من هذه المآسي.
على العكس من الانتفاضة التي لا تزال تجري أحداثها اليوم، فإن أبعد الأحداث معاصرة بالنسبة ليوم 28 سبتمبر، هو حدوث حركة الانفصال السورية عن الجمهورية العربية المتحدة التي كانت تضم كلاً من مصر وسوريا، ونجحت هذه الحركة بواسطة بعض المتمردين الذين قاموا بانقلاب في الجيش السوري في 28 سبتمبر سنة 1961، ووضعوا حداً لأول تجربة وحدوية في التاريخ العربي المعاصر عندما اتحدت كل من سوريا ومصر تحت قيادة جمال عبدالناصر عن طريق إعلان الوحدة بين الإقليم الجنوبي (مصر) والإقليم الشمالي (سوريا) في 22 فبراير 1958. وبالرغم من الحماس الهائل الذي قوبلت به هذه التجربة الرائدة وتدفق حب الشعب السوري تجاه عبدالناصر المصري، إلا أن هذه التجربة لم تستمر إلا ثلاثة أعوام ونصف، ومهما كان الحكم على هذه التجربة -بين مؤيد ومعارض في مصر أو في سوريا- فإن معظم العرب أصيبوا بصدمة من حدث الانفصال نفسه، وكذلك من السهولة التي تم بها النيْل من هدف قومي كبير يسيطر على غالبية أبناء هذه المنطقة: وهو قيام كيان عربي إقليمي متكامل للدفاع عن الحقوق العربية في وجه التجمعات الإقليمية المتكاثرة حالياً: من الآسيان في آسيا، إلى الاتحاد الأوروبي، إلى النافتا أو منطقة التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك. وباستثناء بعض الرسائل الجامعية، فإن تجربة الجمهورية العربية في الوحدة لم تُدرس بما فيه الكفاية لاستخلاص العبر من واحدة من أهم أماني وتوجهات سكان هذه المنطقة.
كان نجاح الانفصال السوري ونهاية الجمهورية العربية المتحدة بهذه السهولة من أوائل مؤشرات الإخفاق في السياسة الناصرية، وقد أدت هذه الصدمة إلى مرض عبدالناصر بالسكر وهو في بداية الأربعينيات من عمره. وهذا يجرنا إلى الحدث الثالث في يوم 28 سبتمبر، والذي يتوسط أقدمها وكذلك أكثرها معاصرة، ألا وهو وفاة عبدالناصر المفاجئة في 28 سبتمبر 1970 -أي بعد تسع سنوات بالضبط بعد صدمته من الانفصال السوري. وبسبب شخصيته الكاريزماتية وتجسيده للكثير من آمال المجموعات العريضة من الشعب العربي، كانت وفاة عبدالناصر حدثاً جللاً، كأن الوفاة حدثت في داخل أس