عندما تزداد الهزائم والانتكاسات في المجتمعات تطول قائمة أولوياتها. ولما كانت نكبات الأمة العربية خلال العقود الماضية قد تضاعفت فإن قائمة الأولويات قد تبدلت وتضاعفت هي الأخرى. وذلك أمر طبيعي. فالمشكلة التي لا تنتهي بحلٍ معقول تدخل قائمة الأولويات. ومع مرور الزمن تطول قائمة الأولويات بحيث يصعب الحديث عن تصنيفها أو عن تقديم بعضها على بعض آخر، وتدخل الأمة في مرحلة الهنديان والضياع.
من هذا المنطلق يجدر أن نطرح سؤالاً عما إذا كان بالإمكان انتقاء أولوية قصوى تكون هي أولوية الأولويات.عند ذاك نساهم في التقليل من تشتت الرؤى والأفكار في ذهن المواطن العربي من جهة ونساهم في تركيز الجهود لإيصال تلك الأولوية الكبرى إلى بر الأمان.
في اعتقادي أنه لابد من توافر عدد من الصِّفات الأساسية في تلك الأولوية، من أهمها:
1- أن يكون تحققها مدخلا يسهل التعامل مع الكثير من الأولويات الأخرى. وبمعنى آخر أن تكون ما يعرف بالمفتاح السيد الذي يفتح كل الأبواب.
2- أن يكون تحققها ممكناً من خلال إرادة وجهود وطاقات المجتمع المدني العربي ومؤسساته في الدرجة الأولى. ذلك أن العجز الرسمي العربي لا يسمح في المرحلة الحالية بالاعتماد على مساهماته.
3- أن تكون لتلك الأولوية الكبرى عند تحققها القدرة على الاستمرارية والفاعلية في المستقبل القريب والبعيد وأن تكون إمكانية انتكاسها بعيدة الاحتمال.
في رأيي أن أولوية الأولويات التي تتصف بالصفات الثلاث السابقة وتملك الحظ الأوفر من النجاح لتحققها في الواقع هي أولوية بناء تواجد سياسي صحي لقوى المجتمع المدني على مستوى كل قطر وعلى المستوى القومي. دون وجود حياة سياسية مجتمعية فاعلة قادرة على التأثير الحقيقي في اتخاذ القرارات الرسمية من جهة ومهيئة لخلق توازن في القوى بين الدولة العربية وبين المجتمع الذي تحكمه من جهة أخرى. دون وجود ذلك يصبح الحديث عن صد العدوان الصهيوني أو الأميركي أو بناء التنمية أو النهضة مجرد تمنيات وبناء قلاع على الرمال.
كيف البدء بهذه الخطوة، ما هي الوسائل التي يجب أن تستعمل، كيف التعامل مع القوى التي ستحاول منعها، كيف التنسيق ما بين القطري والقومي، وغيرها من التساؤلات التفصيلية الأخرى هي التي تحتاج أن يركز عليها المفكرون والعاملون في السياسة وهموم المجتمع الأخرى. ذلك أني موقن بأن الفرد العربي العادي قد أوصله الوضع العربي المأساوي الحالي إلى أعلى مستويات القلق والغضب والاستعداد لإنقاذ نفسه وأمته. لكنه، وكما يعلمنا تاريخ التحولات الكبرى في حياة الأمم، يحتاج إلى أن يقتنع بوجود نواة صلبة مبدعة ذات حسٍ تاريخي ليضع يده في يدها لإخراج نفسه من ورطاته المحلية الكثيرة ولإعانة أمته على استرجاع توازنها المفقود بصورة مفجعة.
لنتذكر أنه إضافة إلى وجود ذلك الفرد العربي الذي أظهر عبر التاريخ استعداداً مذهلاً محيراً للموت والمعاناة، توجد قوى إنسانية كثيرة راغبة في المساعدة على حل إشكالية غياب الحياة السياسية الصحية في المجتمعات العربية. إنها هي الأخرى تنتظر تكوّن تلك النواة. هل من يرى ويسمع ويعي ويقرر؟.