عندما خاطب رئيس الوزراء الكندي "بول مارتين" الدورة الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة في نيويورك، وخصص جزءاً مهماً من خطابه لمأساة "دارفور"، فهو كان يعكس بعضاً من الاهتمام الشعبي الذي يوليه الرأي العام في بلده لما يجري في ذلك الإقليم السوداني البعيد. هذا الاهتمام الشعبي الذي وجد صداه على الصعيد الرسمي، يلحظه المرء كل يوم في وسائل الإعلام الكندية وفي التحرك النشط لمنظمات المجتمع المدني الكندية نحو السودان وفي التواجد الفعلي لكثير من ناشطيها في إقليم "دارفور" وفي الرسائل الصحفية التي يبعثون بها من أرض المأساة مستنهضين الناس لأن يقوموا بواجبهم الإنساني تجاه ما يوصف بأكبر كارثة إنسانية تواجه العالم اليوم في القرن الحادي والعشرين.
وعندما أنب "بول مارتين" مجلس الأمن - في عبارات قوية- على "فشله المستمر في أن يضع مسؤولياتنا الإنسانية المشتركة حيث يجب أن توضع في قلب ودائرة الاهتمام"، وتساءل مستنكراً "كيف يجوز أن نستغرق الوقت في مناقشات فقهية- قانونية حول تعريف وتوصيف ما يجري في دارفور من مأساة دامية، وهل هو جريمة من جرائم التصفية العرقية أم أنه مأساة إنسانية في وقت يموت فيه آلاف الأطفال والشيوخ والنساء جوعاً وعطشاً ومن الأمراض والأوبئة الفتاكة؟"، ودعا الأمم المتحدة ومجلس الأمن للعمل والفعل الجاد من أجل إيقاف المأساة الجارية هنالك، فهو - رئيس الوزراء الكندي- كان يعيد إلى الأذهان مشروعاً كندياً طرحه وزير الخارجية الكندي "لويد هكسورث" أمام الجمعية العامة في دورة انعقادها التاريخية في مطلع القرن الحادي والعشرين تصور فيه أن المجتمع الدولي -الأمم المتحدة- يجوز له أن يتدخل في بلد ما يواجه شعبه كارثة إنسانية متجاوزاً ما يعرف بالسيادة الوطنية. هذا التصور الكندي الذي بعثه مجدداً رئيس الوزراء أمام الدورة الحالية للجمعية العامة والذي يعرف بـ"مبدأ هكسورث من أجل التدخل الإنساني"، صار جزءاً من العقيدة الكندية في السياسة الخارجية منذ مأساة رواندا التي ما تزال أشباحها تلاحق الناس هنا وتقلق منامهم كلما طالعهم وجه الجنرال الكندي "دي لابير" الذي كان قائداً لقوات الأمم المتحدة -آنذاك- في رواندا، والذي شهد فصول المأساة الرواندية الدامية وعاشها بنفسه إلى درجة غيرت مجرى حياته المهنية والشخصية. وفي تقديري أن اسم "دارفور" حيثما وردت الكلمة، يعيد إلى العقل والضمير الكندي اسم رواندا ومأساة رواندا. وهكذا فعندما تحدث رئيس الوزراء الكندي عن مسلسل الفشل الذي أنب عليه مجلس الأمن كانت أشباح رواندا وكوسوفو ماثلة أمامه.
لكن المشكلة أن الرسالة التي حملها رئيس الوزراء الكندي للجمعية العامة حول "التدخل الإنساني" جاءت في وقت ما تزال فيه غالبية شعوب ودول العالم الثالث وغيرها من الشعوب وبعض الدول تساورها شكوك مشروعة حول فكرة التدخل الدولي في شؤون البلدان الصغيرة، لأن ما أحدثه الغزو الأميركي في العراق قد خلق من الشكوك والريب والخوف ما ستظل تحمله الإنسانية البشرية لزمن طويل جداً حتى تستعيد المنظمة الدولية مكانتها ودورها المسؤول. ومع ذلك فستظل لكندا محْمَدتها في هذا الشأن الإنساني بخاصة في "دارفور"، فهي لم تكتفِ بـ"الكلام النظري" ولكن قرنته بالفعل والعمل، فكندا اليوم أكبر مساهم وشريك في العون الإنساني لـ"دارفور".