يُدهشنا الشيخ القرضاوي في الآونة الأخيرة باستسهاله إصدار الفتاوى التي ترسخ مناخات القتل العشوائي وتعطي لجماعات الدم والأفغنة في العراق الرخصة تلو الأخرى في الولوغ بالدم بصورة مقززة لا تفيد لا العراق أو العراقيين، ولا الإسلام أو المسلمين، بل إن كل ما تنقله عنا هو صورة كريهة لقتل لا يتصف بالمروءة سمته الغدر ونحر الرقاب.
الفتوى الأخيرة حول قتل المتعاونين مع الاحتلال والتي تقول إن من يعاون المحتلين في العراق يأخذ حكمهم، وإن "القتال ليس ضرب المسلمين فقط، فالذي يسهل للاحتلال هو معه، وكل من يخدم الاحتلال هو معه ويأخذ حكمه"، هي مقرفة بكل المعايير، مع احترامنا للشيخ الموقر! والمشكلة الرهيبة في هذه الفتوى أنها تأتي في مناخ طافح بجماعات مهمتها القتل الأعمى وتبحث عن أتفه التبريرات للاستمرار في "جهادها البذيء"، فما بالك عندما تأتي فتوى من شخص بثقل القرضاوي يمكن أن تفسر ألف تفسير وأن تستغل وتوسع لتشمل كل من يُستهدف قتله. لو حددت الفتوى، مثلاً، أن المقصود بـ"المتعاون" مع الاحتلال هو الذي يتجسس عسكرياً لصالح الجيش الأميركي، أو الذي ينقل معلومات حساسة عن "المقاومة" للجيش الأميركي، أو أي شيء قريب من ذلك، لفهمنا المسألة، رغم ما يظل ما فيها من ثغرات وثقوب يمكن أن ينفذ منها أرباب الرصاص البليد في العراق ويوسعوا ما تضيقه الفتوى. لكن الفتوى نفسها واسعة إلى درجة مخيفة إلى درجة أنها قد لا تستثني أحداً في العراق أو حوله. وعلى كل حال وللتأمل في أبعاد استرخاص هذه الفتوى للأرواح، والقضايا، وأثرها التدميري، فضلاً عن تجاهلها أوضاعاً مشابهة وسكوتها عنها بما يقدح في موضوعيتها وموضوعية مفتيها، لنتأمل في النقاط التالية:
أولاً: يستخدم القرضاوي الأوصاف والتعبيرات التالية "إن المدني في العراق هو من لا يقاتل أو يعاون المقاتلين المحتلين، أما الذي يعاونهم فيأخذ حكمهم" أو "يسهِّل مهمتهم" وأضاف "يجب عدم الالتفات إلى كون الشخص المتورط مدنياً أو حتى مسلماً، ما دام قد ثبتت جريمة التعاون مع الاحتلال عليه". محاكمة هذه الأوصاف والتعبيرات الفضفاضة من زاوية النص اللغوي والصرامة والدقة في اختيار الألفاظ المعهودة في التقليد الفقهي وعلوم الفتوى، تشي كم هي فتوى القرضاوي خفيفة ومسيَّسة وسريعة، ومدمرة. ليس فيها أدنى تدقيق أو تفريق أو تحسب أو خشية من استغلالها وتوسيعها إلى أبعد مدى. إنها فتوى مقادة بأوصاف مطاطية "التعاون مع الاحتلال"، من دون تعريف لمعنى هذا التعاون وأشكاله وتداخلاته، بما يترك تفسيرها لكل من هب ودب. فببساطة بالغة يمكن أن ينطبق وصف "التعاون مع الاحتلال" على ملايين من الشعب العراقي، وملايين من العرب والمسلمين، فضلاً عن كل حكوماتهم.
ثانياً: من ناحية "تطبيقية" للفتوى العتيدة وبداية بالعراق نفسه فإن نطاق "المتعاونين مع الاحتلال" يتسع من رئيس العراق غازي الياور ورئيس وزرائه إياد علاوي، وحتى أصغر عامل في محطة وقود تتسلم النفط من "الاحتلال" وتبيعه للعراقيين وتعود الأموال بالتالي لصندوق الاحتلال. إذن، حكومة إياد علاوي المتعاونة مع الاحتلال ينطبق عليها حكم القتل بدءاً بعلاوي نفسه ووزرائه، ووكلاء الوزارات، والعاملين فيها، فضلاً عن الشرطة والأمن. والعاملون في تلك الوزارات يسهلون مهمة حكومة علاوي التي تسهل بدورها مهمة الاحتلال. والشركات العامة والخاصة والعاملون فيها التي تورد أي شيء للعراقيين حتى لو كان خضروات وأحذية هي متعاونة مع الاحتلال لأنها تساهم في تخفيف العبء عنه. وكل من يساهم في تشغيل الإدارات الحكومية بما فيهم أساتذة الجامعات الذين "يأتمرون" بإدارة الاحتلال ويقبلون إدارة الجامعات وفق برامج الدوام والإجازات التي تقرها حكومة علاوي والاحتلال من ورائها، هم أيضاً متعاونون ويجوز نحر رقابهم. وكل من يعمل في شبكات الكهرباء والمياه والمجاري والطرق وغيرها مما تنفق عليه حكومة علاوي، ومن ورائها الاحتلال، هو عملياً يسهل مهمة الاحتلال ويساعد في إنجاحها. فنجاح مهمات التنمية وإعادة إعمار العراق هو بشكل ما نجاح لمشروع الاحتلال، وعليه فإن مساعدته في ذلك هي تسهيل لمهمته، وهكذا فإن كل من يعمل في تلك القطاعات، تبعاً لفتوى الشيخ الموقر، هو هدف شرعي للقتل.
ثالثاً: في خارج العراق، تعتبر كل حكومات بعض البلدان العربية المجاورة، هدفاً شرعيا لـ"المقاومة" لأنها تعاملت مع قوات الاحتلال وسهلت مهمته عن طريق القواعد العسكرية وغيرها. صحيح أن الشيخ يلفه الصمت إزاءها فلا يعود يتسق مع نفسه هنا، لكن لا يحتاج أحد إلى ذكاء إضافي حتى يصل إلى نتيجة مفادها "تعاون هذه الحكومات مع الاحتلال الأميركي في العراق". ولا ندري هنا لماذا لا يدعو الشيخ "المقاومة" العتيدة إلى تطبيق حد القتل ونحر الرقاب في "كبراء المتعاونين مع الاحتلال" بدل الاستئساد على ضعاف الناس وسائقي الشاحنات والعزل من "المتعاونين مع الاحتلال" إذا كان مفتوناً بـ"مقاومة الاحتلال" في العراق إلى ذلك الحد. لماذا يتصايح كثيرون على صغار الناس ب