للبعض هي سوق كبير، فرصة ربح أو خسارة، وللبعض متعة محرمة وساعات لهو، وللبعض الآخر هي منزل ووطن. دبي مدينة المال والأعمال أكبر سوق تجاري، أنجح المشاريع بضفتيها صيغ التفضيل كلها لا تعني إلا دبي، أخبارها الاقتصادية تتصدر الواجهة، سياحياً العالم يبحث عن دبي، فرصة عمل، تأشيرة زيارة، تأشيرة عمل، إقامة مؤقتة أم دائمة باختصار هي دبي الحلم.
هذا المقال ليس إعلاناً تسويقياً مدفوع الثمن بالطبع، ولا مقالاً في المال والأعمال بل هو وقفة للتأمل في مدينتي مدينة دبي. فاجأني سؤال من ابن الست سنوات عن معنى كلمة وطني؟ لم استطع أن أردد الاسطوانات المدرسية ذاتها، الوطن هو الانتماء، لكن كيف أشرح ذلك لابن الصف الأول الابتدائي بعد أول درس في التربية الوطنية؟ قد أنتمي إلى بقعة جغرافية: حي سكني، شارع، منزل، أو حتى إلى قلب، لكني أنتمي في النهاية إلى وطن. ودون الانتقاص من حبي واعتزازي بوطني الكبير دولة الإمارات فدبي هي انتمائي بشوارعها وأزقتها، مناطقها القديمة والجديدة: ديره قلب دبي النابض بأحيائها من الرأس، فريج المرر، الحمرية، النخيل، الضغايه، فريج عيال ناصر، بور سعيد، هور العنز، البراحة، أبوهيل، وغيرها، وعلى ضفة بر دبي أحياء الرفاعة، الشندغة، أم سقيم، البستكية، وجميرا، وغيرها مناطق بعضها اختفت من جغرافيتنا الاجتماعية وبعضها ضاعت ملامحها بين العمالة الوافدة الرخيصة أو بنات الليل، وبعضها ضيعت سكانها فضاعت هويتها، بينما بقيت المسميات شاهداً على أزمان مضت. أفهم مقتضيات النمو السكاني المتسارع، توسع المدن وامتدادها لكني لا أفهم كيف ينزع قلب المدينة ويرمى في صحرائها، كم أفتقد الصورة الإنسانية الحقيقية لدبي وأهلها.
كانت دبي وما زالت مدينة متنوعة ثقافياً وحضارياً بموقعها الجغرافي وموانئها، منارة للتنوع العرقي والثقافي التزاوج قديماً لم ينتج هجيناً، لكن أنتج مدينة منفتحة على الاختلاف. لكن يبدو أن سرعة التغيير الآن تفوق سرعة التكيف والاندماج ففقدنا هويتنا، والهوية ليست زياً وطنياً لتجميل الصور لكنها لسان عربي افتقدناه في كل إداراتنا الباحثة عن الجودة والتميز، ولا ننسى أن التوطين ليس غترة بيضاء أو عباءة سوداء، لكنه انتماء بالدرجة الأولى. المدينة المفقودة هي دبي التي عرفتها.
ثقافة الاستهلاك تتغذى من أوراق اليانصيب فالسحوبات الخيالية تغذيها أحلام الإثراء السريع ومن ثم استهلاك حتى الهلاك، ومن مهرجان تسوق إلى آخر تمضي السنوات بنا. لا أجادل في الجدوى الاقتصادية للمهرجانات التي أثبتت نجاحها باستنساخها خليجياً، لكن ماذا عن التأثيرات الثقافية والاجتماعية لمهرجانات البذخ على المجتمع، على الفرد، على الإنسان البسيط. توارت الثقافة أمام متطلبات السوق، غابت القضايا الكبرى وغيبت من حياة الناس. الغربة في الأوطان أصعب اغتراب، أمراض المدن الكبرى ظهرت أعراضها، لا سبيل لإعادة عقارب الساعة، ولا يُنتظر أن تعود، لكن بالنسبة لأهلها دبي ليست مهرجاناً كبيراً في نهايته يتوج الرابح بالملايين.
ناطحات سحاب، فنادق عملاقة، مبانٍ شاهقة لا تنافسها إلا التالية لها، إسمنت في إسمنت، فشارع ما بعد الحداثة كما أسميه، صدمة ثقافية بكل المقاييس، كلما عبرته أتساءل بين لحظات اليقظة والحلم، أين أنا؟ ثورة عمرانية، شركتان تتنافسان على اقتسام مدينتي وعلى تغيير وجهها، مشاريع عملاقة، ناطحات سحاب مخيفة، مدن إسمنتية، أحلام مستقبلية سرعان ما تتجسد في حركة بناء وبناء لن يتوقف. غزو شرقي غربي شمالي وجنوبي مدن عالمية تحمل ملامح العالم ولا تحمل ملامح وطني. ضاع وجه مدينتي التي أحبها. لا يفهم هذا المقال على أنه دعوة للعيش في الماضي ولا لمحاربة التطور، لكن قراءة مقال أستاذي الفاضل الدكتور أنور قرقاش "الرومانسي" بتاريخ 6 سبتمبر عن شارع شاطئ الجميرا أثار في شجوناً وذكريات، وقد يكون هذا المقال خارجاً عن السياق العام لمدينة المال والأعمال أو هو مقال هارب من مفردات لغة العصر، لكنني لازلت أبحث عن إجابة لمعنى وطن، فكيف أنتمي لوطن لا ينمتي إلي؟ أخجل من طرح هذا السؤال.