يلاحظ الباحث، المدقق بموضوعية، أن الولايات المتحدة تمر الآن بصعوبات بنيوية كبرى ربما تحمل دلالات مصيرية حاسمة. فهي توغل أكثر فأكثر في وضع العالم على حافة نزاعات مسلحة. وكلما تعقّد الموقف أمامها، ازدادت شراسة وإصراراً على "استراتيجية" الحروب الساخنة، التي تكتسب الآن مصطلح "الاستباقية". كما يضع هذا الباحث يده على حالة حرجة وطريفة في الفكر السياسي الأميركي المهيمن، وتقوم على أن هذا الأخير يفتقد حدوداً أولية ضرورية من الحكمة السياسية والتبصر السياسي بمستقبل الولايات المتحدة، ربما القريب. وحتى حين نأخذ بالاعتبار القاعدة المنهجية (الفقهية في الحقل الإسلامي المستنير) التي تتمثل في أن "المصالح تحكم العقائد والمبادئ وتضبطها" بقدر أوّلي من المسألة، فإن الحكمة والتبصر المذكورين كليهما يبقى لهما حيّز معين في الموقف برمته، ناهيك عن أن المصالح المعنية ذاتها تقتضي وجودهما أو تفسح المجال لظهورهما، على الأقل بهدف عقلنتها وترشيدها ومحاولة جعلها "مقبولة" في الذهنية الشعبية الشائعة.
وإذا كان ذلك محتملاً قبل أكثر من عِقدين من الزمن في بعض البلدان الغربية الرأسمالية (ومنها جزئياً على الأقل في الولايات المتحدة) تحت اسم "الرأسمالية الشعبية" أو "المجتمع الصناعي العقلاني"، فإن واقع الحال الراهن الذي يصوغه "السوق السّلعية الكونية"، لم يعد يحتمل ذلك، بل هو محاولة لتقويض العالم برمته عبر إعادة بنينته وفق ضرورات هذا السوق. من هنا، برز مصطلح "فوضى العولمة الرأسمالية المتوحشة". وبذلك، أخذت تتهشم أحلام ونظريات روّاد أفكار "الحرية والعدل" في التاريخ الأميركي، الباكر المتأخر خصوصاً، أي فيما يسميه مؤلّفا كتاب (The Imperial Temptation) "غواية الامبراطورية" للكاتب "روبرت تكر"، وكتاب "مرحلة العزلة" لـ"ديفيد هندركسون". في هذه المرحلة يكتب الخطيب السياسي "دانييل وبستر" في (أواسط القرن التاسع عشر) قائلاً: إن رسالتنا الحقيقية ليست في الترويج الدعائي لآرائنا ولا في أن نفرض شكل الحكم الذي نرضى به على أقطار أخرى بالخديعة أو بالإكراه. إنها تتمثل في أن نضرب المثل على صحة ما اخترناه من مزايا أن يحكم الناس أنفسهم بذاتهم وأن يقيموا مؤسسات تتمتع بالحرية، وعلى نحو يشهد الآخرون بما توصلنا إليه من نجاح... ومن إقامة ميزان العدل في بلادنا.
كان على مرحلة العزلة تلك أن تولّي، لتحل محلها لاحقاً مرحلة (هي التي نعيش الآن أصداءها بقوة ورعب) تُحدث قطيعة شبه كلية مع تلك المرحلة الأولى. ولعل واحدة من أكثر السمات التي تحدد المرحلة الأميركية الراهنة، تقوم على السعي للهيمنة على العالم اقتصاداً وثقافة، على نحو الخصوص، مع العمل على تفكيك الهُويات الوطنية والقومية لشعوب العالم لصالح "الهوية السوقية العولمية". وفي سياق ذلك، تبرز قيم أخلاقية وأيديولوجية يسعى من خلالها سدَنَةُ النظام العالمي الجديد الأميركي إلى تكريس هيمنتهم الكونية. بالكذب، والتبشير بصراع الأديان والحضارات، وإرغام البشر على الاندراج في حقل قيمي وثقافي وسوسيواقتصادي واحد.
ها هنا، يُفصح السؤال التالي عن نفسه: لماذا لفق رهط من القادة الأميركيين أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أو غضّوا النظر عنها، وهي التي كلفت أكثر من ثلاثة آلاف أميركي، ثم، لماذا أعلنت الصحافة الأميركية الرسمية أن عدد الذين قُتلوا في العراق هو في حدود الألف ونيّف، في حين كُشف بمساعدة المستشفيات الألمانية منذ بعض الوقت أنه وصل إلى ثمانية آلاف ومئة وواحد وثلاثين شخصاً؟!