كنت أدرِّس للطلاب المبتدئين في الجامعة مقرر العلاقات الدولية على أساس أن السياسة (بمعنىPolicy وليس بمعنى Politics) أقرب إلى أن تكون قراراً بعيد المدى، أو هي مجموعة محددة من التفضيلات والخطط وُضعت بحيث تسهل التوصل إلى القرارات المستقبلية، وتجعلها أكثر تناسقاً، وأن السياسة بهذا المعنى ليست مفهوماً جامداً، فقد يكون من الواجب أن تتعرض لعملية تغيير من وقت إلى آخر لمواجهة الظروف المتغيرة، غير أن معدل هذا التغير لا ينبغي أن يكون كبيراً بحيث يؤثر على تماسك السلوك الدولي للحكومات المعنية أو على فعاليته.
وكان المرء يلتفت حوله بحثاً عن نموذج يصلح للاستشهاد به في السياسات الخارجية للبلدان العربية أو بلدان العالم الثالث بصفة عامة فيجد سمات مشوشة تتعلق بمعظم هذه السياسات –إن لم يكن جميعها بدرجة أو بأخرى- فيستسهل أن يضرب المثال بالسياسات الخارجية لـ"الدول المتقدمة"، وفي القلب منها الولايات المتحدة الأميركية. لكن هذا كان يحدث قبل أن تصيب الإدارة الأميركية الراهنة سياسة بلادها الخارجية بأعراض الجنون، وهو الجنون الذي دفع بالقوة العسكرية الأميركية في تلك الوجهات الخطيرة في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
تمثل نصيبنا من الجنون في العدوان على العراق واحتلاله دون أي تقدير لتبعات هذا العمل. كان السيناريو الساذج يتصور أن العراق بحاجة إلى مُخَلِّص يستقبله بالهتاف والتهليل، ثم تبدأ رحلة إعادة الإعمار وبناء الديمقراطية ونهب النفط العراقي في طريق مفروش بالورود، وكان كل مبتدئ في فهم السياسة عامة وأحوال العراق خاصة يعلم أن لكل فعل رد فعل مساوياً له في القوة ومضاداً له في الاتجاه، وأن الاحتلال لابد وأن يولد مقاومة متصاعدة، ويعلم أيضاً أن تكوين الجسد العراقي يجعل من الخطورة بمكان أن يتم التلاعب بمقوماته من الخارج وإلا كانت النتيجة إعصاراً من عدم الاستقرار. لكن الإدارة الأميركية أصرت على ألا تغادر قطار الجنون الذي تقوده، وصممت على أن تسير به بالسرعة القصوى حتى يرتطم بما لابد أن يرتطم به فلا يتحطم وحده وإنما يشيع الدمار من حوله.
في البدء أنكر رجال تلك الإدارة خطورة الموقف ووقف أحد عرَّابيهم الأساسيين - وزير الدفاع رامسفيلد- يتحدث بكل صلافة واستخفاف منكراً تدهور الموقف في العراق قائلاً إن بغداد أكثر أمناً من واشنطن، والآن يعود ليصرح يوم الجمعة الماضي (الرابع والعشرين من سبتمبر) بأن العراق "لم يكن في يوم من الأيام يعمه السلام أو مثالياً ومن غير المرجح أن يكون كذلك"، هذا لكي يبرر تلميحه الخطير في أعقاب اجتماع له مع رئيس الوزراء العراقي بأن "الولايات المتحدة قد تبدأ سحب قواتها من العراق قبل أن يحل السلام في البلاد".
لا شك أن رحيل قوات الاحتلال في أي وقت هو موضع ترحيب من أي مخلص لوطنه العراق وأمته العربية، وهي فرصة على أي حال للتحقق التجريبي من أن السبب الرئيسي في عدم استقرار العراق هو احتلاله، لكن المرء يعجب من حال دولة عظمى قامت بعدوان غير شرعي على بلد كالعراق - باعتراف الأمين العام للأمم المتحدة- بدعوى امتلاكه لأسلحة دمار شامل تصور وزير خارجيتها أنه يقدم البراهين على وجودها في كلمة ألقاها في مجلس الأمن في فبراير 2003 -أي قبل العدوان بحوالي شهر- وكانت مصحوبة بالصور والتسجيلات، ثم عاد بعد شهور ليعترف بخطأ تقديراته، ثم ادعت تلك الدولة العظمى أنها إنما جاءت لتبني الديمقراطية في العراق، وإذا بها تقول الآن إنها سترحل عنه قبل أن يعمه السلام لأنه كان دوماً كذلك، بل يتفتق ذهن وزير دفاعها عن أن إجراء الانتخابات القادمة غير ممكن في كل أرجاء البلاد إذا استمر العنف، وبالتالي فهو يسلم سلفاً بديمقراطية منقوصة جغرافياً بعد أن كنا جميعاً نعرف أنها ستكون شوهاء من المنظور السياسي على الأقل.
لن نتوقف تفصيلاً عند التعليق على تصريحات "رامسفيلد"، لكن الإشارة تبقى واجبة إلى أن تصريحاته السابقة قد جاءت بعد يوم من إعلانه أنه قد يكون من الضروري إرسال مزيد من القوات إلى العراق لتوفير الأمن للانتخابات التي ستجرى في يناير 2005، أي أن "لا سياسة" رامسفيلد جعلته يناقض نفسه في يومين متتاليين، بل إنه قد اكتشف بعد يوم واحد من تصريحاته حول إرسال مزيد من القوات إلى العراق أنه "كلما كثر عدد الجنود ازدادت الضرورة إلى وجود أعداد أكبر من قوات الحماية". وهذا هو منطق الاحتلال الذي لا يدرك أن الأزمة تكمن في فكرة وجود الجنود نفسها، والذي يتعين علينا أن نذكره بالمثل الشعبي المصري "إصلاح الرعية أنفع من كثرة الجند".
غير أن ثالثة الأثافي كما يقولون في "اللاسياسة" الأميركية تجاه العراق أن "ريتشارد أرميتاج" نائب وزير الخارجية الأميركي صرح في الوقت نفسه تقريباً بأن الانتخابات في العراق "يجب أن تشمل البلاد بأسرها... وعلينا بذل قصارى جهدنا للوصول إلى المناطق المضطربة. أعتقد بأننا سنجري هذه الانتخابات في كل مناطق البلاد". فأية دولة عظمى تلك التي تؤسس عدوانها على معلومات كاذبة، ويتناقض واحد