تسعى دول مجلس التعاون الخليجي بصورة مجتمعة ومنفردة إلى تطوير تجارتها وعلاقاتها الاقتصادية الخارجية بصورة سريعة، مدركة في ذلك حاجتها المستقبلية إلى هذا التطور، فالإنتاج الصناعي لدول المجلس، وبالأخص في مجال الصناعات البترولية والبتروكيماوية ينمو باطراد، ما يتطلب فتح المزيد من الأسواق العالمية أمام هذه المنتجات.
يتزامن هذا التوجه مع التغيرات المتوالية في التجارة الدولية، والتي كان آخرها الاتفاق على السياسة الزراعية في نطاق منظمة التجارة العالمية والبدء في الجولة الخاصة بتحرير قطاع الخدمات.
لقد فتح الاتفاق الخليجي حول إقامة الاتحاد الجمركي آفاقاً واسعة أمام دول المجلس للتوصل إلى اتفاقيات مشتركة لإقامة مناطق تجارية حرة مع العديد من البلدان والتجمعات الاقتصادية الأخرى في العالم، فبالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي والذي علق الاتفاق مع دول الخليج لسنوات طويلة بحجة عدم وجود اتحاد جمركي خليجي، فإن دول المجلس وقعت اتفاقاً مع لبنان لإقامة منطقة تجارية حرة، كما أن المباحثات تسير قدماً مع الأردن والصين التي تعتبر اليوم الشريك التجاري الأول لدول المجلس لتوقيع اتفاقية مماثلة.
بالتزامن مع ذلك وقعت مملكة البحرين اتفاقية مع الولايات المتحدة الأميركية في منتصف شهر سبتمبر الجاري لإقامة منطقة للتجارة الحرة بين البلدين، وذلك بعد أن صادق الكونجرس الأميركي على هذه الاتفاقية، كما أن كلاً من دولة الإمارات وقطر والكويت تجري مباحثات مماثلة مع الولايات المتحدة.
ربما لا يدرك البعض مغزى هذا التحول المهم في العلاقات التجارية ومدى تأثيراته الاقتصادية، فتوقيع اتفاق للتجارة الحرة يعني بشكل مبسط إلغاء الرسوم الجمركية على السلع الوطنية المصنعة والمنتجة في البلدين أو في التجمعين الاقتصاديين المعنيين. فالبلدان الأوروبية على سبيل المثال والتي تفرض 6% كرسوم جمركية على صادرات دول المجلس من الألمنيوم والبتروكيماويات والتي قللت من القدرات التنافسية للمنتجات الخليجية في الأسواق الأوروبية على مدى سنوات طويلة سيتم إلغاء هذه الرسوم في حالة إقامة منطقة للتجارة الحرة بين الطرفين. في المقابل، فإن المنتجات الأوروبية ستدخل الأسواق الخليجية معفية من الرسوم الجمركية.
وينطبق ذلك على اتفاقيات التجارة الحرة الأخرى مع الولايات المتحدة والصين ولبنان وغيرهما من البلدان والاتحادات الاقتصادية في العالم.
وفي نفس الوقت، فإن هذا التوجه يتطلب إعداد الاقتصاديات الخليجية لمثل هذه التحولات، فالمنافسة داخل الأسواق الخليجية ستشتد بين المنتجات المحلية والمستوردة، كما أن ميزانية الدولة ستفقد جزءا من عائدات الرسوم الجمركية، وذلك على الرغم من أن المحصلة الإجمالية ستكون إيجابية إذا ما تم أخذ الاستعدادات والاحتياطات اللازمة.
وضمن هذه الاستعدادات تأتي عملية إعادة الهيكلة الاقتصادية، فالمنتجات عالية التكلفة، مقارنة بمثيلاتها الأجنبية لن تستمر في المنافسة وستواجه صعوبات عديدة، بما في ذلك صناعة الملابس الجاهزة، في الوقت الذي ستنمو فيه صناعات المنتجات التي تتوفر لها أفضليات إنتاجية ويعتبر إنتاجها رخيصاً في دول المجلس، كالبتروكيماويات، وهي الصناعات الأهم لدول المجلس والتي تشكل حالياً 65 – 70% من قيمة الإنتاج الصناعي.
هذه المنتجات الخليجية ستكون قادرة على المنافسة في الأسواق الخارجية، وبالأخص في الأسواق التي ستعفى فيها من الرسوم الجمركية وفقاً لاتفاقيات التجارة الحرة المشار إليها، علماً بأن هذه الصناعات تتوفر لها كافة عوامل النجاح في دول المجلس، كما أنها تعتبر حلا مثالياً للعديد من الإشكالات المتعلقة بالأيدي العاملة وتنويع مصادر الدخل القومي.
هذا النوع من الصناعات المعتمد على كثافة رأس المال والتكنولوجيا المتقدمة سيوفر عشرات الآلاف من فرص العمل للمواطنين، حيث تعتبر الأجور مرتفعة، مقارنة بالصناعات التي لا تتوفر لها أفضليات، كصناعة النسيج، كما أن تطويرها سيساهم في تعويض التراجع في حجم الرسوم الجمركية وسيزود موازنات هذه البلدان بموارد إضافية ومضمونة.
لا ندعي هنا، أن إعادة الهيكلة مسألة سهلة ويمكن تطبيقها بين ليلة وضحاها، وإنما هي مسألة معقدة وبحاجة لاستراتيجية طويلة المدى، إلا أنها أصبحت قضية لابد منها على ضوء التوجهات الحالية لدول المجلس ولتحقيق أكبر استفادة من اتفاقيات المناطق الحرة الموقعة بين دول المجلس والبلدان والتجمعات الاقتصادية الأخرى في العالم.