خلال المقابلة التي أجريت معه للحديث عن تطورات الحرب العراقية ونشرت تفاصيلها في صحيفة "نيويورك تايمز" الجمعة الماضي، لم يكن وزير الخارجية الأميركي "كولن باول" يحمل أدنى شبه بالجنرال الواثق من نفسه، الذي أخبرنا عام 1991 بأن حرب الخليج الأولى (تمضي كما هو مخطط لها).
منذ ثلاثة عشر عاماً، كان باول واثقاً من نفسه، بل يمكن أن نقول إنه كان واثقاً بها إلى حد الغرور، وذلك عندما كان يشغل منصب رئيس هيئات الأركان الأميركية المشتركة. وعندما أدلى باول في ذلك الوقت بتصريح وصف فيه الخطة التي سيتبعها الحلفاء لهزيمة جيش صدام حسين قال: "أولا سنقوم بتقطيع أوصال ذلك الجيش، وبعد ذلك سنقوم بالإجهاز عليه". وكان باول يقوم أيضاً بسرد تفاصيل الكيفية التي ستقوم بها القوات البحرية والجوية والبرية بإحكام الخناق على الجيش العراقي تدريجياً ويقول:"أنا لا أبالغ في شيء ولكنني أريد من الجميع أن يعرفوا أنه يوجد لدينا صندوق كبير للأدوات، وأن هذا الصندوق يحتوي على كل شيء، وأننا سنستخدم كل ما فيه لهزيمة العدو".
كانت لدى باول في ذلك الوقت كافة الأسباب التي تجعله مزهواً بنفسه وبجيشه على هذا النحو. فالتحالف الذي كانت تقوده الولايات المتحدة في حرب الخليج الأولى، كانت لديه خطة متماسكة ومنسقة، كما كان يتمتع بدعم جوي هائل وتفوق عسكري ساحق، وعدد من الجنود الأميركيين يزيد عدده على نصف المليون.
أما باول الذي رأيناه يوم الجمعة الماضي، محاطاً بالمراسلين وبالمحررين الصحفيين، فقد أبلغنا بالتأكيد برسالة مختلفة جد الاختلاف.
رفض الرجل أن يرسم صورة وردية عن مدى تقدم الحرب الحالية التي تجري في العراق وقال:"أمامنا طريق صعب يتعين علينا اجتيازه". وأقر باول بأن "المقاومة" التي واجهها الجيش الأميركي كانت أقوى مما توقعت الإدارة، عندما قال:"لن أقوم بالتقليل من مقدار الخطورة التي يمثلها التمرد الذي نواجهه في العراق".
وأضاف باول إلى ذلك قوله:"إن المقاومة تلقي بـ(ظلال سوداء) على جهود الولايات المتحدة في العراق".
والحقيقة أن صراحة السيد باول قد ساهمت في إفاقتنا. ولكن السؤال الذي لم يقدم لنا مسؤولو الإدارة أي شيء يساعدنا على العثور على إجابة له هو: إلى أين تمضي بنا تلك الحرب التي لم يكن لها معنى في أي وقت، والتي نتج عنها مصرع 1000 جندي أميركي، والتي فاقمت من درجة عدم الاستقرار الموجودة في الشرق الأوسط، والتي أدت إلى تقوية وضع جماعات الإرهاب التي تمثل التهديد الحقيقي الذي يواجه أميركا؟
كل ما شاهدناه من مسؤولي الإدارة الأميركية في الآونة الأخيرة، هو أنهم راحوا يتبارون في تخفيض سقف التوقعات المتعلق بالانتخابات العراقية المزمع إجراؤها في شهر يناير القادم. ففي هذا الصدد قال لنا وزير الدفاع دونالد رامسفيلد:"إنه سيكون أمراً جيداً لو تمكنا من تنظيم الانتخابات في ثلاثة أرباع البلاد". أما السيد باول فقد صرح في مقابلة أجرتها معه شبكة "سي. إن إن" بما يلي:"ستكون هناك مراكز انتخابية يتم إطلاق النار عليها في تلك الانتخابات، وسيكون هناك من يحاول إرهاب الناخبين والحيلولة بينهم وبين التردد على تلك المراكز".
ومعنى ذلك أنه لم يعد لدى أي أحد من الإدارة القدرة على أن يقنعنا بأن العراق يسير في طريقه المحدد نحو الحرية ونحو الديمقراطية.
في الوقت نفسه، يتردد أمامنا في الوقت الحاضر بعض أصداء ما حدث في حرب فيتنام. فمثلما حدث في تلك الحرب، يقوم القادة الأميركيون الآن بالمطالبة بتزويدهم بالمزيد من القوات. لقد كان الأمر كذلك على الدوام: فالقادة العسكريون الأميركيون الذين ينخرطون في حروب لا يمكن كسبها ضد المتمردين الأجانب يظنون أن الحصول على عدة آلاف من الجنود كفيل في حد ذاته بتحويل الدفة وتحقيق النصر. لقد كان يقال للأميركيين دائماً إن هناك ضوءاً في نهاية النفق في فيتنام، وكان الجنود الذين سيقوا لهذا الكابوس يعلقون ساخرين على ذلك قائلين:"نعم ضوء... ولكنه الضوء القادم من قطار يتجه نحونا بأقصى سرعة".
فبدلا من تحطيم جيش العدو وهو هدف حرب الخليج الأولى، فإن عجلات الآلة العسكرية الأميركية تنغرز الآن في الرمال العراقية. فلا أحد يعرف على وجه الدقة من هو العدو، ولا من أين يأتي، ولا ما هي المهمة في الأساس؟
هذه هي البيئة المرعبة والعبثية التي يتعرض فيها الجنود الأميركيون يومياً لخطر الموت سواء بإطلاق الرصاص أو بالمتفجرات أو بالتشويه ببشاعة.
أما في الوطن فإن الشعب الأميركي على ما يبدو قد نسى إلى أين يمكن أن تقوده حرب ساقه إليها قادته بدون تدبر. وهناك في هذا السياق كتاب لا يزال يستحق التذكر على رغم مرور ثلاثة عقود على نشره وهو كتاب المؤلف الذائع الصيت "ديفيد هالبرستام" المعنون:"الأفضل والأكثر ذكاء". في ذلك الوقت كان الرئيس الأميركي "ليندون جونسون" يأمل في أن يتمكن من الانتهاء من حرب فيتنام في أسرع وقت ممكن، لأنه كان يخشى من التداعيات السياسية التي يمكن أن تترتب على معرفة التكاليف الحقيقية الاقتصادي