العنف يحيط بنا من كافة الزوايا ويكاد يكون جزءاً رئيسياً من أيامنا هذه، فهو في العراق وهو في فلسطين وهو في الجزائر والسودان، بل وفي السعودية ومناطق أخرى خلنا أنها آمنة. وبعض العنف كما هو حال فلسطين، ندرك أن له جذورا تاريخية مرتبطة بالظلم والاحتلال الغاشم الذي يجثم على صدورهم، وهو عنف مرتبط بسرقة أرض وشعب وبتشريد أهله، وامتداداته تشمل رد فعل الضعيف المغبون على انتهاك حقوقه وعلى الإذلال اليومي الذي يتعرض له. وكلنا ندرك كم عانى رد الفعل هذا بعد الحادي عشر من سبتمبر من وصف المقاومة المشروعة بالإرهاب، كما عانى من انفلات العمليات الانتحارية والثمن السياسي الباهظ الذي يدفعه الفلسطينيون جرّاء غياب حكمة بعض فصائلهم وتغييب حدسهم ووعيهم السياسي.
وإذا كان لبعض هذا العنف مبرراته إلا إن أكثره غير مبرّر كما نرى في العراق وفي العمليات الإرهابية في السعودية. ففي الحالة الأولى، وبرغم استمرار الاحتلال، أصبح التعبير السياسي والتنظيم السياسي متاحاً ومشروعاً، بل إن دائرة الخطف والتفجير والانتحار هي القيد الأول والرئيسي على هذه الحريات، فتأجيل الانتخابات أو قصرها على مناطق محدّدة خيارات يتم الحديث عنها بسبب دوامة هذا العنف المجنون، فلأول مرة نرى سيناريو عربياً مقلوباً، فالعنف في هذه الحالة ليس مقصده وهدفه توسعة العملية السياسية وفتحها بل العكس من ذلك تماماً، حيث يسعى الخاطفون والمفجّرون والمنتحرون للجم العملية السياسية، وهدفهم على ما يبدو أن أية حكومة تنشأ من هذه العملية تنقصها الشرعية لأنها لم تستطع أن تؤسس لانتقال دستوري يتمتع بإجماع كافة القوى السياسية، إنه حقاً منطق غريب أن تتاح الفرصة للجميع وأن يسعى البعض إلى تقويضها بالقنابل البلاستيكية وبالسيارات المفخخة وبسكاكين النحر. والغريب أن هؤلاء وغيرهم يروّجون لمقولة إن القوى السياسية العراقية والتي برزت في ظل التواجد الأميركي لا تتمتع بشعبية ولن تستطيع أن تفوز بأية انتخابات تشريعية نزيهة، فإذاً من المنطقي اختبار هذه الفرضيات سلمياً وسياسياً من خلال المعارضة السلمية ومن خلال المنطق والعقل لا الإرهاب والعنف.
والحقيقة غير هذه، فاللاجئ للعنف يسخّره لأهداف أخرى، فالبعض العراقي لا يريد أن يرى نظاماً سياسياً منفتحاً وحديثاً، لأنه تخرج من سجون وأقبية الديكتاتورية الآسنة، وهو يتوهم أن عنفه هذا طريقه الوحيد للعودة للماضي بأجهزته الاستخباراتية ومنطقه الأعوج وامتيازاته المادية. أما البعض الآخر، ومنهم العديد من غير العراقيين، فيرون العراق ساحة حرب مع الولايات المتحدة، وفي حملتهم هذه لا يكترثون البتة بالشعب العراقي ولا يعنيهم مستقبله. ومن السخرية أن ناحري المدنيين في العراق يعتقدون أن لهم موقفا أخلاقيا ودينيا، ويغيب عنهم صمتهم وسكوتهم على ظلم صدام وحزبه، وكأنما ضميرهم استيقظ فجأة وبدل أن يلجأ للعقل وللقلب وللسان لجأ للسلاح وللسكين وأسلحة أخرى أكثر فتكاً وتدميراً.
والمؤسف في المشهد الحالي أن حجم العنف وتصاعده يدعمه جيش من المبرّرين ومن المنظّرين كلهم يخوض معركة خاصة به، ولا يأبه بالعراق وبالعراقيين. فهذا البلد وأبناؤه مجرد مسرح و"كومبارس" يريد من خلالهم أن يواجه واشنطن أو الأكراد أو الشيعة والسنة، أو الفكرة ذاتها، ألا وهي أنه آن الأوان لبلد عربي محوري أن يقرّ بتنوعه وتعدديته وأن تكون هذه الحقائق مصدر قوة له في سعيه لتبني نموذج فيدرالي ليبرالي يعينه على ما هدمته الإيديولوجيات الطفولية وعسكرها.
المخرج في العراق طريق العملية السياسية السلمية، أما الإرهاب والعنف فما هما إلا آفة تنشرها بعض العقول المريضة، وللأسف الشديد، شئنا أم أبينا، سنجد أن مستقبل العراق سيتأثر سلباً بتيار العنف الذي نراه، ويتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية المبرّرون لهذا العنف من كتّاب ومنظرّين ومفكّرين.