داخل الغرف الدبلوماسية في واشنطن، تسري حمى الاجتماعات والانتقادات الموجهة لما يصفه البعض بتلكؤ بوتين وبطئه في بناء الديمقراطية، التي لا تزال هشة ومزعزعة الأركان في بلاده. وقد أعرب كل من الرئيس بوش ووزير خارجيته كولن باول، عن اعتراضات حذرة، غير أنها ليست ملتبسة إزاء ما يجري في روسيا. وقد كان ذلك الاعتراف في مكانه تماماً. ومما لا شك فيه أن تحركات بوتين، تمثل استعادة مزعجة لعقود المركزية الأتوقراطية التقليدية. كما هو صحيح أيضاً أن للولايات المتحدة مصلحة في إبطاء مضي روسيا في هذا الاتجاه. ابتداءً فإنه ليس من المرجح أن تفيد اللغة الفظة في التعامل مع هذه الظاهرة. لكن على أية حال، فإن التطورات الجارية في روسيا، لا تحدث في الفراغ.
ففي الفترة القريبة الماضية، شهدت روسيا هجمات إرهابية، تكاد تماثل الهجمات التي تعرضت لها الولايات المتحدة الأميركية في الحادي عشر من سبتمبر 2001. وفي خطين متوازيين، تواجه كل من الدولتين تحديا ذا طبيعة واحدة مشتركة، وإن كان كل يفعل ذلك على طريقته الخاصة. ولكن ما الذي سيراه الروس، فيما لو نظرت بلادهم إلى الاستجابة الأميركية لهجمات الحادي عشر من سبتمبر؟ في اعتقادي أنه ستخطر على أذهانهم فكرتان أساسيتان: أولاهما أن الروس سيلحظون أن الاستجابة الأميركية لهجمات11 سبتمبر كانت عسكرية محضة تقريباً. ويعني ذلك أن الوسائل الأميركية الأخرى من سياسات اقتصادية ودبلوماسية واجتماعية، وتحالفات دولية، وغيرها.. قد نحيت جانباً، ولم يكن لها دور يذكر في تلك الاستجابة. ضمن ذلك، فقد أخضعت كافة الأولويات الحكومية الأخرى، لأولية "الحرب على الإرهاب".
كما سيلحظ الروس أيضاً أن ذلك المنظور المطلق الذي انطوت عليه دعوة "إما أن تكون معنا أو ضدنا" قد استمد معظم شحنته الآيديولوجية من الرؤية شديدة التشاؤمية التي يتسم بها المحافظون الجدد، والقائمة في الأساس على الفصل الحاد والمطلق بين الخير والشر. ولما كان المحافظون الجدد قد تعلموا درس فشل مؤسسات الديمقراطية الليبرالية في أن تهزم أياً من التيارين السوفيتي والنازي، فقد استسلموا لفكرة أنه ليس هناك من معنى أصلا، لتحليل جذور بعض الظواهر الاجتماعية السياسية مثل الإرهاب وجذور منشئها ومسبباتها. لذلك فقد كان المنطق الذي احتكم إليه المحافظون الجدد هو أن يفتح المرء نيرانه على الظاهرة أولا، ثم يأتي لاحقاً للتفكر في عواقب ما فعل. والنتيجة الطبيعية لمنهج كهذا، هي غض الطرف عن أية وسائل أخرى في مكافحة الإرهاب، عدا الوسائل العسكرية. ومن النتائج المنطقية أيضاً غلبة الميل إلى وضع المزيد والمزيد من الصلاحيات والسلطات، بيد الإدارة التنفيذية المركزية، على النحو الذي لاحظه وشكا منه الكثيرون من أعضاء الكونجرس، الذين شعروا بالإحباط إزاء هذا الميل. وستكشف الأيام مستقبلا عما إذا كان هذا النهج ناجعاً ومشروعاً في مواجهة الإرهاب والتصدي له أم لا. لكن المؤكد هو إن كان الخيار العسكري هو الخيار الوحيد للولايات المتحدة الأميركية- بكل ما عرف لهذه الدولة العظمى من إرث طويل امتد لخمسة عقود كاملة على الأقل، في أن تكون القوة العسكرية هي الخيار الأخير في مواجهة ما يستجد من أزمات- فإن ذلك يبرر لدول أخرى مثل روسيا وغيرها، أن تلجأ إلى الخيار نفسه كخيار أول ووحيد، مستلهمة في ذلك النموذج الأميركي.
بل إن صيحة الحرب هذه، التي أطلقتها الولايات المتحدة الأميركية، ستجلجل في أركان العالم كله، ومما لا شك فيه أن الانتهازيين سيلتقطونها، في نوع من رجع الصدى لتلك الصيحة الأميركية، مستغلين بذلك الحرب على الإرهاب، في تصفية حسابات وخدمة مآرب أخرى، لا صلة لها من قريب أو بعيد بالإرهاب. وفي هذا فإنه ليست ثمة أهمية للحقائق والوقائع. غير أن تشديد القبضة الروسية على منطقة الشيشان، ليست بأقل من هذا على أي حال من الأحوال. ولهذا فإن دعوة الإدارة الأميركية لنظيرتها الروسية إلى تبني الحلول والمداخل السياسية لحل النزاع في الإقليم، ستبدو مفعمة برائحة الكذب والنفاق.
الأمر الثاني الذي سيلحظه الروس، هو أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر قد أعطت مشروعية لواضعي السياسات الأميركية، في الربط بين أهداف لا يوجد جامع بينها، كغزو العراق مثلا. والواقع أن للمحافظين الجدد، مشروعاً مسبقاً ومبيتاً منذ عقد التسعينيات، يستهدف فرض نموذج الديمقراطية الأميركية على منطقة الشرق الأوسط بأسرها. هذا مشروع لا يخلو من النبل، وحري بأن يثار حوار قومي عام حوله. غير أن المحافظين الجدد، كانوا يدركون أنه لن يصمد طويلا أمام النظرة النقدية العامة الفاحصة. ومن هنا نشأ التشويش حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، واختلاق صلة ما، بين صدام حسين، وهجمات الحادي عشر من سبتمبر، وتنظيم القاعدة. وكانت الفكرة كلها، هي استغلال الوجود العسكري الأميركي في مسرح العمليات في أفغانستان القريبة من الشرق الأوسط، لغزو العراق عسكرياً.
بالمنطق ذاته، سيكون في وسع الروس أن يسعوا للربط بين أهداف لا صلة بينها، مس