إن ما شاهده الجمهور في حوض "مونيتري باي" للأسماك، ربما لا يكون أقل من كونه ظاهرة تاريخية، وغير مسبوقة من نوعها. فقد جرت خلال النصف الأخير من القرن العشرين، أكثر من 37 محاولة لإلقاء القبض على إحدى أسماك القرش البيضاء، وحفظها في حوض اصطناعي للأسماك، بغرض عرضها للجمهور. إلا أن تلك المحاولات فشلت جميعها، ولم يفلح أي من متاحف التاريخ الطبيعي في تحقيق هذا الهدف مطلقاً. ويقينا فإن أسماك القرش قد تدربت جيداً وتعودت على حياة البحر الطليقة، حيث تعلمت التجوال كيفما تشاء، جرياً وراء فريسة محتملة في أي وقت. غير أن هذا الفشل المتكرر بالذات، هو الذي أغرى المتاحف وأحواض الأسماك الاصطناعية على ملاحقة الهدف والسعي المستمر للحصول عليه. وفيما يبدو، فإن حوض "مونتيري باي" يبدو الأقرب لتحقيق الهدف الآن. وفيما لو نجحت تجربة الاحتفاظ بسمكة القرش البيضاء لمدة زمنية طويلة في ذلك الحوض، فإن ذلك سيساعد الباحثين البيولوجيين كثيراً، في الكشف عن سُجف من الأسرار والغموض اللذين أحاطا بهذا الكائن المائي، الذي يثير من الرعب والخوف أكثر مما يحرض على المعرفة ورغبة الاكتشاف. ولكنك الآن، حين ترى زوار هذا الحوض، وهم يلصقون أنوفهم وجباههم بزجاج الحوض- بمن فيهم الأطفال- فإنك تكتشف لأول مرة، أنه في إمكان أكثر الكائنات الحية شراسة وإثارة للرعب في نفوس البشر، أن يحظى بقدر من التعاطف، وأن يعبر الناس تجاهه عن رغبة في صداقة ما. وهذا هو المعنى الذي أكدته "كريستينا سلاجر" مديرة حوض "مونتيري باي" الذي تعرض فيه سمكة القرش، بقولها:"ليس هناك من طريقة أخرى لتغيير مفهوم الناس عن سمك القرش عدا عرضه أمامهم وجعلهم يعتادون عليه. ولهذا السبب، فإن السمكة المعروضة هنا، تمثل سفيرة لنوعها هي بالذات، فضلا عن كونها سفيرة لكافة الكائنات الحية من جنسها وللكائنات الحية المائية".
والسمكة المعروضة هنا هي أنثى القرش الأبيض، ويبلغ طولها حالياً أربعة أقدام وأربع بوصات، وهي أصغر حجماً من أنواع أخرى من الأسماك التي تشاركها الحوض نفسه، بما في ذلك مجموعة من أسماك التونة العملاقة. ولكن الحقيقة أن هذا الاختيار كان مقصوداً تماماً، إذ أنه ما من حوض من الأحواض الاصطناعية، يستطيع أن يحتفظ بسمكة قرش بيضاء مكتملة النمو، يبلغ طولها 15 قدماً. يذكر أن الباحثين البيولوجيين كانوا قد نبهوا صيادي الأسماك في منطقة ساحل ولاية كاليفورنيا، إلى أن يخطروهم ، فيما لو وقعت في شباكهم سمكة صغيرة من أسماك القرش البيضاء. وبالفعل اتصل بعض الصيادين في ساحل "هنتنجتون"، بالفريق العلمي وأخطروه بما عثروا عليه في شباكهم: سمكة قرش بيضاء صغيرة، لا يزيد عمرها على عام واحد! ولكن لم تكن المشكلة دائماً وطوال المحاولات السابقة التي أشرنا إليها آنفاً، في القبض على سمكة القرش نفسها، بقدر ما كانت تكمن في صعوبة التعامل مع كائن بحري بكل تلك الشراسة المعهودة عنه، وبكل ما عرف عنه من طلاقة وحرية. فقد ظلت أسماك القرش على ارتباطها وعهدها ببيئتها التي لم يطرأ عليها تغيير جوهري يذكر منذ عصر الديناصورات تقريباً. ولذلك فقد كان الطهي هو المصير النهائي لمعظم أسماك القرش البيضاء التي ألقي القبض عليها خلال المحاولات السبع والثلاثين السابقة. فما من سمكة واحدة منها، استطاعت أن تعيش بعيداً عن بيئتها الطبيعية في البحر، داخل حوض اصطناعي لأكثر من 16 يوماً كحد أقصى.
وهنا في "مونتيري باي"، أمضت سمكة القرش البيضاء -التي يفضل العلماء عدم البوح باسمها- أسبوعاً كامل دون أن تبدو عليها أية أعراض اعتلال صحي، مع ملاحظة انفتاح شهيتها على نحو خاص لأسماك السلمون. وقد كان هذا النجاح نتيجة لتخطيط جيد سبق إلقاء القبض على السمكة المعنية. فقبل إدخالها إلى الحوض، كانت السمكة قد احتجزت داخل حوض بحري طبيعي ضيق، لمدة تراوحت بين ثلاثة أسابيع إلى أربعة، مما سمح لها بالتأقلم التدريجي مع المساحات المائية الضيقة. وما أن اطمأن العلماء تماماً إلى أنها على استعداد لأن تنقل من ذلك الحوض الطبيعي، حتى شرعوا في نقلها إلى حيث هي الآن، داخل هذا الحوض الاصطناعي. وقد استغرق إعداد الحوض ثلاثة أعوام، بينما بلغت تكلفته المالية 1.2 مليون دولار.
ومما لا شك فيه أن عرض سمكة قرش- مهما كان عمرها وحجمها- فيه مفارقة بين أمرين: تعريض حياة الناس للخطر، مع الحرص على تعلميهم ما لا يعرفونه عن طريقة حياة هذه السمكة المتوحشة ومعرفتها أكثر من خوفهم منها. والهدف النهائي من كل هذا الجهد بالطبع، هو سعي العلماء والباحثين البيولوجيين إلى فهم هذا النوع من الأسماك على نحو أفضل، ما يمكنهم من حمايتها كنوع بيولوجي مستهدف بحملات الصيد الجائر، وتناقص أعداده بمعدلات كبيرة. وليس الجمهور وحده هو الذي يجهل طريقة حياة هذه السمكة وعاداتها... إلى آخره، بل إن العلماء أنفسهم يجهلون عنها معلومات أساسية وأولوية. لذا فإن حبسها والتعامل معها عن كثب، ستكون له فائدته في تلبية هذه الرغبة في التعرف عليها على نحو أفضل مما هو متوفر الآن