تصدق التقارير التي تبثها وكالات الأنباء عن المشابهة بين قسمات المشهد السياسي الراهن داخل إسرائيل في عام 2004 وبين ذلك المشهد الذي تعرفنا على ملامحه ونهاياته في عام 1995. إن أبعاد المشابهة التي تركز عليها وكالات الأنباء تتصل برفض قوى اليمين العلماني والديني على حد سواء لخطة رئيس الوزراء المنتخب تجاه التسوية للصراع مع الشعب الفلسطيني واحتمال أن ينتهي هذا الرفض إلى نهاية مشابهة يلقاها رئيس الوزراء شارون لتلك التي لقيها رئيس الوزراء آنذاك "اسحق رابين". ومن هنا فإن التقارير الصحفية تركز على هذا البعد الدرامي المتوقع لإسدال الستار على المشهد. ومع اتفاقي في التقدير مع هذه التقارير خاصة فيما يتصل بأنباء صلوات طلب الهلاك التي يقوم بها بعض الحاخامات المتطرفين ابتهالاً لهلاك شارون وموته عقاباً له على نيته الانفصال عن غزة وسحب المستوطنات والمستوطنين، وهو ما يعد في نظرهم خطيئة دينية كبرى، فإنني أرى أن المشابهة تمتد إلى أبعاد أخرى يجب إضاءتها. صحيح أن قيام "إسحق رابين" كرئيس للأركان في حرب 1967، بالتوقيع على اتفاقية "أوسلو" ثم تسليم السلطة الفلسطينية بعض الأراضي المحتلة قد جلب عليه سخط اليمين، وصحيح أيضاً أن هذا السخط قد شمل أوساط اليمين العلماني التي قادها "بنيامين نتنياهو" في ذلك الوقت كما يقودها اليوم ضد شارون "عوزي لانداو" أحد أقطاب ليكود وأحد وزرائه، وصحيح كذلك أن الحاخامات الذين رأوا في خطة رابين تخلياً عن "أرض إسرائيل" قد أقاموا صلوات طلب الهلاك له المعروفة بمصطلح "بولسادى نورا" أي لعنة الضرب بسياط النار وأصدروا فتاوى دينية متنوعة تحِل دمه وتهدره وتجعله حلالاً لأي يهودي يستطيع القضاء على حياته، وهو ونفس نوع اللعنات والصلوات والفتاوى الذي يتعرض له شارون والذي يشمل فتوى "دين روديف" أي حكم القائم بمطاردة يهودي وتعريض حياته للخطر. وهي الفتوى التي تسمح لأي يهودي، يلاحظ أن يهودياً عادياً يطارد يهودياً آخر بهدف قتله أو تعريض حياته للخطر، بقتل اليهودي العادي إنقاذاً لحياة اليهودي المسالم محل المطاردة. تلك الفتوى التي استخلصها الحاخامات المتطرفون من الأحكام الدينية القديمة وطبقوها على حالة "رابين" باعتباره يهودياً معادياً يعرِّض حياة اليهود المسالمين للخطر عن طريق السماح للشرطة الفلسطينية بحمل السلاح في إطار اتفاقية "أوسلو" من ناحية، وعن طريق فتح الباب بهذه الاتفاقية لهجوم الفدائيين الفلسطينيين على مواقع الجيش والمستوطنين. وصحيح أن نفس نوع الصلوات والفتاوى ضد شارون اليوم بسبب عزمه على تسليم غزة إلى الفلسطينيين يشمل فتوى "دين موسير" وهي نفس الفتوى التي صدرت ضد رابين عام 1995 عقاباً له على تسليم "أرض إسرائيل لأعدائها" حيث إن المصطلح يعني حكم المفرِّط في أرض إسرائيل أو حكم من يسلم أرض إسرائيل، وهي كذلك فتوى مستمدة من الأحكام الدينية القديمة وتم تكييفها على حالة قيام رابين بتسليم قطاع غزة وبعض مدن الضفة الغربية للسلطة الفلسطينية، وهو ما أعطى خلية من الشباب الديني يقودها رقيب في المباحث الداخلية الشاب "يجآل عامير" السند الديني اللازم لقتل "رابين".
كان التوجه المستقبلي لخطة "رابين" يعتمد على التفاهم مع الطرف الفلسطيني. هذا بينما نلاحظ أن التوجه المستقبلي لخطة شارون يقوم على اتخاذ القرارات من جانب واحد دون تفاوض مع الطرف الفلسطيني بل وحتى دون اعتراف بزعامته الشرعية ومع تصميم على تجريد هذه الزعامة من صلاحيتها وحبس رئيسها عرفات وفرض الإقامة المقيدة في مكان محدد على شخصه.
ولعل حديث شارون الأخير إلى صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية الأسبوع الماضي يبلور هذا الاختلاف بين توجهه المستقبلي ونواياه وبين توجه رابين وخلفائه في زعامة حزب العمل باراك ثم الجنرال "عمرام متسناع" الذي خسر الانتخابات الأخيرة أمام شارون مما اضطره إلى الاستقالة من زعامة الحزب اعترافاً بالهزيمة.
يقول شارون لصحيفة "يديعوت أحرونوت" إن خطة الانفصال من جانب واحد عن غزة والتي يطرحها اليوم، لا تسير في إطار خطة الطريق الدولية والتي تسعى إلى إقامة دولة فلسطينية... بل إن خطته للانسحاب من غزة ومن أربع مستوطنات في الضفة يمكن أن تكون مخرجاً من إملاءات خريطة الطريق. وقال شارون بالنص في مجال الإيضاح لتوجهه المستقبلي القائم على تجميد عملية التسوية بعد الانفصال عن غزة لزمن طويل: إن هناك فرقاً كبيراً بين ما يطرحه في خطة الانفصال وبين مشاريع أخرى طرحها "عمرام متسناع" زعيم حزب العمل السابق، والتي أقر فيها بوجوب البدء فوراً في إخلاء إحدى المستوطنات اليهودية في قطاع غزة وهي مستوطنة "نتساريم"، ثم الشروع في استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين ومواصلة تفكيك المستوطنات على أساس خريطة الطريق. ورأى شارون أن خطة "متسناع" كانت ستضع إسرائيل في أشد الأوضاع صعوبة ولهذا فقد قام برفضها. وأوضح أن جميع الخطط والمشروعات الإسرائيلية من حزبه وحزب العمل تدعو إلى الانسحاب من غزة وأن خطته بالذات تسمح لإسرائيل بالان