الكتاب الذي نعرض له اليوم عنوانه "Neoconomy"، وهو عنوان مركب صاغه المؤلف من وحي ما يرى أنه ثورة في الاقتصاد الأميركي توازي الثورة التي أطلقها المحافظون الجدد "Neocons" في ميدان السياسة الخارجية.
المؤلف هو الكاتب الأميركي "دانييل ألتمان" الذي ترك الحقل الأكاديمي وتدريس الاقتصاد في جامعة "هارفارد" وآثر العمل في الصحافة: من مراسل لمجلة "إيكونوميست" إلى عضو في هيئة تحرير صحيفة "نيويورك تايمز"، ثم كاتب للتحليلات الإخبارية الاقتصادية، ليتفرغ بعدئذ لتأليف كتابه هذا وللعمل كمستشار اقتصادي للحكومة البريطانية.
ويقدم "ألتمان" عرضاً وافياً للجذور الفكرية للسياسة الاقتصادية التي اتبعتها إدارة الرئيس "بوش". ومن أهم ما يؤكد عليه أن الثورة التي حدثت في ميدان السياسة الاقتصادية لم تكن معلنة وواضحة كالثورة التي حدثت في ميدان السياسة الخارجية والتي حظيت بكثير من التغطية الإعلامية. يقول "ألتمان" إنه كان هناك "كادر من الأيديولوجيين -عليكم بتسميتهم الاقتصاديين الجدد- منشغلٌ بإحداث تحوّل في المجتمع الأميركي". وربما أن أوضح تجليات هذه الثورة هو التغير الكبير الذي طرأ على نظام الضرائب الأميركي، والذي يعتبره كثير من الأميركيين في مصلحة الأغنياء وأصحاب الدخل المرتفع وليس في مصلحة فقراء أميركا وعموم سكانها، فكلما ارتفع الدخل ارتفع حجم الضرائب التي تسقط بموجب الإعفاءات، لكن نسبة الضريبة ثابتة في كل الأحوال.
يرى "ألتمان" أن منشأ هذه السياسة الاقتصادية كان في أول عامين من عهد إدارة الرئيس "بوش"، وذلك بمجيء كل من "غلين هيوبرد" إلى منصب رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين و"لورانس ليندسي" إلى منصب رئيس المجلس الاقتصادي القومي، حيث حملا إلى واشنطن بذور التغيير الذي كان بأكمله دراماتيكياً ومحفوفاً بالمخاطر.
ولا يتخذ "ألتمان" موقفاً متشنجاً من ذلك الهدف، بل يقدم عرضاً موضوعياً للإيجابيات والسلبيات ويبتعد عن التحريض وإثارة مواقف مشابهة لما واجه خط السياسة الخارجية الجديد. ويعتقد "ألتمان" أنه يمكن للمسار الاقتصادي أن يؤدي إلى رفع مستويات المعيشة على نحو أسرع مما كان في أي وقت مضى، وإلى تحقيق فترة رخاء غير محدود، ولو أنه يصرح أيضاً بأن مؤدى ذلك ربما سيكون انهيار النظام الرأسمالي. ويشرح "ألتمان" ما يعتبره "تفاعلاً تسلسلياً" تصورته السياسة الاقتصادية الجديدة على شكل حلقات متتالية هي: تقليص الضرائب المفروضة على المدخرات والثروات؛ تتزايد مدخرات الأسر (على شكل حسابات مصرفية، وأسهم وسندات إلخ)؛ يتزايد حجم الأموال المتوفرة لدى الشركات الأميركية باعتبار أنها هي التي تقدم الحسابات المصرفية والأسهم والسندات وغير ذلك؛ تنفق هذه الشركات والقطاعات المزيد من الأموال على الآلات وبرامج الكمبيوتر وعلى البحوث والتطوير؛ يتعاظم حجم الناتج من البضائع والخدمات وتتسارع وتيرة الاختراعات التكنولوجية؛ أخيراً، وكنتيجة لكل ما سبق، ترتفع مستويات المعيشة والدخل بسرعة أكبر لمدة سنوات وربما إلى الأبد.
وفي تقييمه للبرنامج المذكور، يوضح المؤلف أن أولى الخطوات تمت بتوقيع الرئيس "بوش" على مشاريع قوانين لإلغاء ضريبة العقارات وتخفيض الضرائب على عائدات الأسهم وأرباح الرأسمال، ومساعدة الشركات على تقليص ما تدفعه من ضرائب على الأرباح.
وطرح الرئيس "بوش" اقتراحات معنية بتوسيع حسابات الادخار مع إعفائها من الضرائب، وهو ما يؤدي إلى إسقاط الضرائب عن أكبر كم ممكن من استثمارات الأسر الأميركية.
وباعتبار أنه يقدم عرضاً موضوعياً يخاطب به أكبر شريحة من القراء على اختلاف مستوياتهم، تبنى المؤلف لغة سهلة ابتعدت عن تعقيد المصطلحات الاقتصادية والتخصصية، حتى لدى تقديمه تحليلاً اقتصادياً للحجج التي يتمسك بها أصحاب النهج الاقتصادي الجديد. وربما أن بلوغ أكبر شريحة من القراء تحقق للمؤلف بعرضه لحقائق أداء الاقتصاد الأميركي في السنوات الماضية، وبالتزامه بتأسيس مناقشاته وحججه على وقائع الحالة الموضوعية للاقتصاد التي تلامس حياة كل الشرائح، مع التزامه باستخدام التحليل الاقتصادي الأساسي والابتعاد عن الغوص في تحليلات لدوافع أصحاب النهج الاقتصادي الجديد.
ومع تطرقه إلى الأداء الاقتصادي عموماً، آثر المؤلف أن يقتصر تركيزه على أثر الاقتصاديات الجديدة Neoconomics في ما يرى أنه لا مساواة في الدخل، وهو يقول إنه ما دام المال وسيطاً للوصول إلى الفرص والحصول عليها، فإن تلك اللامساواة ستواصل خلق اللاكفاءة أو اللافعالية.
ولذلك يشعر المؤلف بالقلق الذي ينتاب دافعي الضرائب أصحاب الدخل المنخفض حيال امتيازات من لا يدفعون الضرائب أو تم إعفاؤهم منها بموجب التعديلات المذكورة، وهو يرى أن هناك "الأقلية المحظوظة المتنامية التي نجحت في تلقي كل دخلها من الأسهم والسندات والأوراق المالية الأخرى"، والتي يقول إنها لن تدفع شيئاً لبحوث السرطان، كما إنها لن تدفع أية أموال تصب في مصلحة "دبلوماسية أميركا الدولية وقوة ردعها العسكري وصيانة ش