إذا كنا قررنا من قبل أن الأمن العالمي في خطر نتيجة تفاعل عوامل متعددة، فلابد أن نتطرق اليوم للمفهوم الأميركي للأمن العالمي. وذلك لسبب واضح مؤداه أن الولايات المتحدة الأميركية منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001 أعلنت أنها الإمبراطورية التي ستحكم الكون إلى الأبد! وفي ضوء هذه النزعة التي تطمح إلى أن تجعل الهيمنة الأميركية مطلقة على سياسات مختلف الدول عدوة كانت أم صديقة، ظهر أن الولايات المتحدة الأميركية تعتبر أن الأمن العالمي هو في المقام الأول أمن الولايات المتحدة الأميركية!
وقد يكون من حظ الباحثين في مختلف بلاد العالم أن المجتمع الأميركي - وخصوصاً من ناحية الفكر الاستراتيجي المعلن- مجتمع مفتوح. بمعنى أننا نستطيع تتبع الوثائق الأميركية المعلنة مثل الوثيقة الخاصة بالمذهب الجديد للأمن القومي الأميركي. أو الأبحاث التي تنشرها على الملأ مؤسسات تمارس التخطيط الاستراتيجي للحكومة الأميركية.
لاشك أن على قمة هذه الدراسات الاستراتيجية التقرير الذي أصدرته مؤسسة "راند" الأميركية الشهيرة، لـ"نورا بنشائل"، و"دانيل بيمان". يفصح التقرير بجلاء في مقدمته عن أن الأوراق البحثية المتعددة التي يضمها التقرير تعالج اتجاهات الأمن البازغة والتي ستشكل وضع الخليج العربي في السنوات القادمة. والموضوعات التي تمت مناقشتها والتي ستؤثر على الأمن الإقليمي تتضمن مستقبل الإصلاح الاقتصادي والسياسي والعلاقات المدنية العسكرية، وتغيرات النظم السياسية، وأمن الطاقة، وذيوع تكنولوجيا المعلومات الحديثة، وانتشار أسلحة التدمير الشامل.
ويقصر المجال بالطبع عن المناقشة التفصيلية لكل أبعاد المفهوم الأميركي للأمن العالمي الذي يتعرض له التقرير بالتفصيل، والذي يحتاج إلى قراءة تحليلية فاحصة من قبل صناع القرار السياسي العرب وقادة الجيوش العربية، والباحثين والمثقفين العرب عموماً، حتى يدركوا المعالم الرئيسية للسياسة الأميركية التي ستطبق في منطقة الشرق الأوسط في العقود القادمة.
ويرصد التقرير منذ البداية ضروب التهديد المختلفة للأمن السياسي في الشرق الأوسط التي تصاعدت منذ نهاية حرب الخليج في عام 1991، وذلك لأن التوترات بين الدول هددت المنطقة نتيجة عدم الاستقرار. وفي بعض الأحيان تصاعدت هذه التوترات لتتحول إلى عمليات حربية مفتوحة، مثيرة بذلك الاضطراب في الاستقرار السياسي والاقتصادي، وخالقة بالتالي لأزمات إنسانية عنيفة. واليوم فإن تهديد العدوان المتبادل بين الدول يعبر عن نفسه بطريقة مستحدثة وخطيرة في نفس الوقت. ولعل انهيار عملية السلام الإسرائيلية العربية، وما تلا ذلك من تصاعد أحداث العنف قد ألهب المشاعر المعادية للولايات المتحدة الأميركية في العالم العربي.
كما أن انتشار أسلحة التدمير الشامل قد أدى إلى ارتفاع احتمالات الصراع بين الدول. أما تصدير "الإرهاب" من الشرق الأوسط إلى العالم فقد أدى إلى العزلة السياسية والاقتصادية للمنطقة. ويلتفت التقرير بذكاء إلى التطورات الداخلية في بلدان المنطقة منذ عقد من الزمان، والتي قد تؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار. ويشير بصفة خاصة إلى أن جيلاً جديداً من القادة بدأ في استلام الحكم في الوقت الذي لا توجد فيه دلائل على امتلاك أعضاء هذا الجيل من الحكام الشباب مهارات القيادة اللازمة، بالإضافة إلى عدم التأكد من استنادهم إلى قواعد شعبية تؤيدهم. ومن التطورات المهمة أيضاً زيادة معدلات تعليم النساء مما سيهدد نظام المكانات الاجتماعية التقليدي. كما أن تكنولوجيات الاتصال المتقدمة مثل القنوات التليفزيونية الفضائية قد انتشرت مما أتاح الفرصة للجماهير أن تتعرض لوجهات نظر متعددة بشأن القضايا السياسية والاقتصادية. وإذا كانت هذه التطورات - كما يقرر التقرير- قد تكون لها آثار إيجابية على المدى الطويل فيما يتعلق بانتشار موجات الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، فإنها على المدى القصير قد تؤدى إلى اضطرابات سياسية واقتصادية وتزيد احتمالات الصراع، مما قد يؤدى إلى تغيرات لا يمكن التنبؤ بها في سياسات الدول.
وأياً ما كان الأمر فإن تقرير مؤسسة "راند" على عادة مثله من التقارير الاستراتيجية، يوجز في البداية النتائج الأساسية للبحوث المتعددة التي يتضمنها، والتي تحتاج كل نتيجة منها إلى مناقشة نقدية من قبل صناع القرار والباحثين العرب.
النتيجة الأولى أن عدم الاستقرار السياسي في الشرق الأوسط يمكن أن تكون له آثار خطيرة بالنسبة لأمن الولايات المتحدة الأميركية، ويشير إلى أنه منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 فإن الشرق الأوسط لعب دوراً كبيراً في سياسة الولايات المتحدة الأميركية. ذلك أنها تعتمد على شركائها في المنطقة مثل إسرائيل والسعودية وقطر لمحاربة "الإرهاب" وتحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل. وفقدان الولايات المتحدة الأميركية أحد الشركاء الرئيسيين نتيجة لتغيرات مفاجئة في النظم السياسية، أو بسبب تصاعد الاتجاهات المعادية لأميركا قد يؤثر على قدرة الولايات المتحدة الأميركية في مكافح