أعلنت إدارة بوش خلال الأسبوع الماضي، خططاً تشير إلى اعتزامها تغيير أوجه صرف ما يقارب الـ20 في المئة من إجمالي مبلغ 18.4 مليار دولار التي تم التصديق عليها من قبل، كمساعدات للعراق. ووفقاً للتغييرات المعلنة، فسوف يتم توجيه النسبة المشار إليها آنفاً، من احتياجات البنية التحتية، إلى أوجه الصرف الأمنية والإنفاق على المزيد من العمالة العراقية، ومن مشروعات البناء المادي، إلى مشروعات الهندسة الاجتماعية. وفيما لو تم تبني هذه الأولويات خلال مدة وجيزة من الآن، فإن من المحتمل أن يتحول الوضع في العراق، إلى أفضل مما هو عليه اليوم.
هذا وقد أوضح مسؤولو الإدارة، أن تدهور الأوضاع الأمنية في العراق، يتطلب بذل المزيد من الجهود، في تدريب وتجهيز قوات الشرطة والجيش العراقيين. كما أعرب المسؤولون عن وجود حاجة موضوعية، لتبني برامج من شأنها تخفيف معدلات البطالة العالية بين الشباب العراقيين. ومما لا شك فيه أن الخطط الأميركية الرامية إلى تقديم العون والمساعدات الإنسانية للعراقيين، فضلا عن تحديث الشبكة الكهربائية، وقنوات الصرف الصحي والبنية التحتية للاتصالات، على حساب دافع الضريبة الأميركي، يعد التزاماً مخالفاً للتجربة الأميركية الأخيرة في مجال إعادة بناء الأمم، مثلما هو عليه الحال في كل من البوسنة وهاييتي، وكوسوفا، إضافة إلى كونها مفارقة حتى لتجارب إعادة بناء الأمم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتجربتي التحول الديمقراطي في كل من ألمانيا واليابان.
والواقع أن موضوع إعادة بناء الأمم، إنما ينحصر في إعادة السلطة، وبأسرع ما يمكن إلى حكومة وطنية نيابية، ذات أهلية وقدرة على تحمل المسؤولية. لكن وفي دولة مثل العراق، حيث حدث انهيار تام للجهاز الحكومي، فإن الأولوية هي استتباب الأمن العام. تلي تلك الخطوة، إعادة بناء هياكل الحكم والدولة المحلية. ثالثة الخطى هي توفير مناخ ملائم للنشاط التجاري الرئيسي، بحيث يستطيع المواطنون شراء السلع والخدمات وبيعهما، مع ضمان حصولهم على مستحقاتهم بعملة محلية مستقرة في سعر صرفها. أما الخطوة الرابعة فتتمثل في حفز وتشجيع الإصلاحات السياسية، عن طريق حفز نمو منظمات المجتمع المدني، وبناء الأحزاب السياسية والصحافة الحرة، والاستعداد لإجراء الانتخابات، وترتيب الأوضاع من أجل التحول الديمقراطي. أخيراً تأتي الخطوة الخامسة، ألا وهي تحسين بناء الطرق والجسور وخدمات الكهرباء والمياه وخطوط الاتصالات والهواتف، وغيرها من الخدمات الأخرى.
وفي العادة، فإن الإنفاق على الخدمات الأخيرة هذه، عادة ما يأتي في آخر قائمة الأولويات، لكون المشروعات المتصلة بها، عادة ما تستغرق وقتاً طويلا، إلى جانب بطء عائدات الاستثمار. وليس ذلك فحسب، بل إن مثل هذه المشروعات، عادة ما تكون باهظة التكلفة، بالمقارنة مع أية مشروعات وبرامج أخرى. وخلافاً للاستثمارات في المجالات الأخرى، فإن مشروعات إعادة البناء، تكون مربحة في نهاية المطاف، وتستطيع تمويل نفسها كما هو معروف. ولهذا السبب، فإن التمويل اللازم لمشروعات البناء الكبرى، يأتي عادة من مؤسسات التمويل الدولية، مثل البنك الدولي، أو البنوك الإقليمية، وليس من المنح والمساعدات المالية، التي توفرها الحكومات أو الدول.
وغداة احتلالها للعراق، فضلت الإدارة نقل مسؤولية إعادة بنائه من وزارة الخارجية ووكالة التنمية الدولية الأميركية، إلى وزارة الدفاع وسلاح المهندسين الأميركيين. وكان طبيعياً أن توفد وزارة الدفاع، مسؤولاً عن مهام إعادة البناء، يعكس خبرة الإدارة وتجربتها في مجال بناء القواعد العسكرية، ونظم الأسلحة، مما أدى إلى إهمالها للكثير من التجارب القريبة في مجال إعادة بناء الدول. وبالنتيجة، فقد تركزت جهود البنتاجون، على الجانب المادي بدلا من الجانب المعنوي، أي على إعادة بناء البنية التحتية المادية، على حساب إعادة بناء الهياكل والبنى الاجتماعية أولا. كما اعتمدت الوزارة أكثر على المقاولين العسكريين الأميركيين، بدلا من الاعتماد على المقاولين العراقيين، والمنظمات والجماعات الصغيرة غير الربحية، ذات الخبرة والتخصص في مجال التحول السياسي للدول.
ويعد إعطاء الأولوية لتحسين خدمات الكهرباء ونظم الصرف الصحي وغيرهما، على حساب إعادة بناء الأحزاب السياسية العراقية، وتحسين أدائها، أمراً لا يتسق وتجارب إعادة البناء الحديثة، التي جرت في كل من البوسنة وكوسوفا وأفغانستان. وبسبب الانتقادات التي وجهتها إدارة بوش في وقت مبكر للجهود الأميركية التي بذلت في البلقان، ولشعورها بالإحباط إزاء بطء التقدم الجاري في إعادة بناء أفغانستان، فقد آثرت الإدارة تبني النموذج الأميركي في إحداث التحول الديمقراطي، في كل من ألمانيا واليابان، وهو النموذج القائم على خطة "مارشال" لإعادة بناء أوروبا، هذه المرة في العراق. غير أن المسؤولين الأميركيين، أخطأوا خطأ فادحاً في قراءة تجارب بناء الأمم في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
ففي كلتا التجربتين اليابانية والألمانية،