يلاحظ المرء رواج شعار (لا إله إلا الله محمد رسول الله) يغطي الزجاج الخلفي للسيارات بحجم كبير يحجب مساحة الرؤية الخلفية. ولكن ماذا يقصد به؟ فماذا وراء الأكمة؟
ومع أن هذا التعتيم للرؤية مخالف لقواعد المرور في كل العالم، ولكن من يتجرأ فيأمر سائق السيارة أن يزيل الشعار الوطني واسم الله ورسوله؟ وهنا يوظف الشعار الديني في السياسة بذكاء.
وأتذكر نفسي في "نيويورك" كيف انتشرت الأعلام الأميركية بعد أحداث سبتمبر، ولكن من اشتد في رفع العلم لم يكن الوطني بل المنافق دفعاً للشبهات عن نفسه، فهذه آلية تعويضية عند المنافقين يفعلونها وهم لا يشعرون.
ومن بنى "مسجد الضرار" كان المنافقون فأمر الله نبيه أن لا يقيم فيه أبداً، لأن العبرة ليست في الشعار والبناء بل "الوظيفة" التي من أجلها خلق.
وفي بلاد ثورية تم توظيف ثلاث كلمات "الوحدة والحرية والاشتراكية" فكرسوا الانفصال وساد الفقر وقتلت الحرية قتلاً.
ولعبة الشعارات والرموز قديمة. ومن رفع القرآن على رؤوس الرماح في معركة "صفين" لم يكن أنزه الفريقين. وكل حزب عنده شعار وعلم وتحية مثل الصليب المعقوف عند النازيين، وكلمة "الرفاق" عند الشيوعيين، كما يعرف الماسونيون بعضهم بعضاً بطريقة سلام معينة. وتعرف المسلمة بغطاء الرأس في الغرب ولو كانت في باقي ملابسها لا تختلف عن ممثلة. فهذه هي قوة الشعار.
وليس في الدين مكان لرجال الدين، ولكن العالم اليوم يحتشد برجال الدين كما لم يزدحم من قبل برموز لا نهاية لها من الملابس والطيلسانات والقلنسوات والعمائم والطرابيش بألوان شتى.
ونحن عندما نستخدم "الشعارات" في زمن الخوف فنحن نلعب هذه اللعبة المزدوجة من الإظهار والإخفاء. وكما يقول "روبرت غرين":"نحن جميعاً نقول الأكاذيب. لأن التعبير الكامل والحر يشكل استحالة اجتماعية. إننا نتعلم إخفاء أفكارنا منذ سن مبكرة. ولكننا على الجانب الآخر نرتدي قناعاً".
إن الحقيقة هي للقلة فقط. وهو الأمر الذي فعله ابن رشد مع الخليفة الموحدي "أبو يعقوب" بعد أن قدمه "ابن طفيل" للخليفة.
"الشعار" إذن هو أسلوب جحا القديم: أن نقول كلاماً هو في الظاهر ضد أفكارنا، وهو في الواقع أسلوب خفي للتعبير عن أفكارنا.
في عام 1593 ألقت محاكم التفتيش القبض على الفيلسوف "تومازو كامبانيلا" فالكنيسة حسب رأيه:"روجت للخرافات كي تتحكم برقاب الناس وتبقيهم خائفين". ومن يقول: قال الله. فما لأحد بالله من طاقة؟
وبقي في السجن ست سنوات ثم أطلق سراحه ليوضع تحت الإقامة الجبرية في "نابولي". ولكن الرجل عاد ليتحدث بأفكاره الخطيرة. هذه المرة لم تكتف محاكم التفتيش بالسجن بل عرضته للتعذيب بالآلة المعروفة باسم "الخازوق المضاعف" La Veglia حيث يعلق المتهم وهو في حالة القرفصاء من ذراعيه مشدوداً وتحته لوحة من مسامير غليظة حادة طويلة، وإذ لا يستطيع المتهم الصبر طويلا فليس أمامه إلا النزول على هذه المسامير تقطع لحمه.
وأثناء هذا حفظ "كامبانيلا" الدرس في مقاومة السلطة. فتظاهر بـ"الجنون" فلم يصدقوا وعرضوه للتعذيب للتأكد من ذلك. ثم تظاهر "كامبانيلا" بأنه عاد إلى صوابه فكتب كتاباً عن "الملكية الأسبانية" يمتدح فيه الكنيسة ويقدم نصائح عملية للملك الأسباني لـ"توسيع سلطاته الإلهية".
ظن الأصدقاء أنه جن فعلا،ً وفي أضعف التقديرات فإن السجن غيَّر آراءه فعلاً. ولكن كتاب "المديح" لم يكن في الواقع إلا خدعة بعد خدعة التظاهر بـ"الجنون" للتملص من قبضة محاكم التفتيش الجهنمية.
ونجحت العملية ولكن محاكم التفتيش لم تفرج عنه تماماً بل حكمته بالمؤبد، وأودعته زنزانة منفردة تحت الأرض مقيدة ذراعه إلى الجدار لمدة أربع سنوات للتأكد من توبته النصوح.
وبقي الرجل في محبسه 23 سنة حتى عام 1626. ثم أفرج عنه بعد أن أصبح من رعايا الكنيسة الطائعين. وبعد خروجه بوقت قصير أصدر كتاباً مهماً بعنوان "هزيمة الإلحاد". واحتار رجال الكنيسة في تفسير ما جاء فيه، فهو من جهة يعرض آراء المفكرين الأحرار و"الهراطقة" من كل صنف، ولكن بوضوح ودقة، في الوقت الذي يستشهد بآراء الكنيسة في الرد عليها بصيغ عتيقة مبتذلة وأسس منطقية معقدة.
والحاصل أنه بدل أن يفند رأي "الهراطقة" فقد جلى أراءهم وأوضحها ونشرها وبواسطة الكنيسة. ولم يكن في مقدور مسؤولي محاكم التفتيش وأشياعهم هذه المرة أن يلقوا القبض عليه ويودعوه في السجن من جديد فقد رفع الرجل التائب العائد إلى حظيرة الإيمان "شعار" الدفاع عن العقيدة الصحيحة والكثلكة والبابا والكنيسة. وبعد فترة وجيزة أصبح كتاب "هزيمة الإلحاد" إنجيل الملحدين من كل صنف يتدارسونه فيما بينهم فتعمهم البهجة ويزدادون كفراً بالكنيسة.