من دون أن تتعمق الثقافة في مجتمع ما يظل يعاني من عيوب الطفولة الفكرية والتسطح العام في فهم الواقع والتاريخ وامتلاك وعي حاذق يليق بتركيب الحياة وتعقيدها. وطالما ظلت الثقافة مركونة ومهمشة على جانب الحراك الاجتماعي والحياتي اليومي، ومنظوراً لها بكونها نشاطاً ترفياً غير ضاغط لتمثله وممارسته فإن أحادية الوعي هي التي تسيطر على ذلك المجتمع. والوعي المذكور في هذه الحالة يكون غالب الأحيان وعياً منقوصاً وفقيراً، حدوده الظن بمعرفة الذات وتاريخها كما تم تلقيه وتلقنه عبر مناهج التعليم التفاخرية وفي المدارس. وعياً متضخماً بالذات من حيث اعتبارها مقدسة أو شبه مقدسة والاعتقاد بتميزها عن الآخرين اعتقاداً يقودها إلى درجات تتحرش بالوعي العنصري إن لم تعكسه أصلاً.
يتفاقم ذلك كله في حالة الضعف الحضاري والسياسي والعسكري والهزيمة الشاملة. ففي مثل هذه الحالة يكون الارتكاس إلى الوعي الماضوي، حيث فترات الازدهار والتقدم المنقضية، هو الأكثر دفئاً لأنه الحل شبه الوحيد الذي يقدم تعويضاً نفسياً عن بؤس الواقع. والثقافة في عصر الهزيمة يُنظر لها إما بكونها متاعاً ترفياً لا وقت للاهتمام به، إذ يتظاهر الجميع بأنه "منشغل" بقضايا أكثر التصاقاً بمهمة "الخروج من الهزيمة"، وإما بكونها ثغرة يمكن أن يتسلل منها ما يكرس الهزيمة أو يضاعفها. تصبح الثقافة مشبوهة ومحط اتهام. أسرع وأشهر طريقة تدافع بها عن نفسها هي الالتحاق بمشروع متسيس أو مؤدلج يعطيها جواز مرور تتخطى به حواجز الاتهامات. لكنها في كل الحالات الراهنة وعلى الشاشات العربية الأكثر تأثيراً تتصف باليُتم المزري في جوار تبجح الفجاجة السياسية المفتقرة إلى الغنى الداخلي، وتتصف بالملل والإضجار في جوار الخلاعة والتهتك المنتشرين على الشاشة. ليس ثمة دعوة لهجر السياسة والتسيس فهما أس مقارعة الهزيمة، لكن سياسة من دون ثقافة متنوعة وعميقة تصبح فجاجة. كما ليست ثمة دعوة لهجر الغناء والفن بكل أشكالهما، لكن حين لا يصدران إلا عن فقر ثقافوي فاضح يصبحان محض تقليد "قردي" مثير للهزء أكثر مما هو مثير للمتعة، مناط الفن والغناء!
في حالة الضعف الحضاري والهزيمة الشاملة تصبح الثقافة شرطاً من شروط التحرر لأنها تساهم في الوعي بالهزيمة ومسبباتها، لكنها عربياً وتلفزيونياً راهناً تمثل عبئاً إضافياً مضجراً لا يتسم بالإثارة ولا السرعة. وهي مقهورة في الإعلام وعلى شاشات التلفزة، وإن وجدت يكون وجودها خجولاً وقصيراً وسريعاً يُراد التخلص منه والعودة فوراً إما إلى الضخ السياسي التعبوي الذي يريد تعويض فقره التاريخي وغياب عمقه الثقافي بالتسمين الشعاراتي، وإما إلى الضخ الخلاعي "القردوي" المتسم بكل شيء ما خلا الثقافة.
إعلام اليوم هو الصورة والتلفزيون، تأثيراً واهتماماً ودخولاً إلى كل بيت. مضمونه الكلمة المكتوبة وشكله الشاشة والأداء عليها ثم الوقوع في أسر تحديداتها. والشكل المسيطر على الشاشة هو الشكل الغربي ذو الإيقاع السريع والمتلاحق الذي يحمل هماً واحداً هو تدليل المشاهد حتى آخر نقطة كي لا يمل. هذا الشكل التسطيحي المثير والسريع في التحكم في الصورة جذره ثقافة الاستهلاك الغربية، التي تريد عرض أكثر ما تستطيع من عناصر السوق (بالمعنى الترميزي للمفهوم) في أقل مساحة متاحة من الزمن. وهي في منتهى الأمر ثقافة مجتمعات منتصرة لا تشغلها هموم الانحطاط ولا التطرف ولا الهزيمة التاريخية، وعبرت في صيرورة الخروج من الهزيمة والتخلف. وهي فوق ذلك تصدر عن حراك ثقافي وحضاري وفكري امتد طيلة قرون ثلاثة ماضية امتازت بالثراء والعمق والانتصار للعقل شكلت البنية التحتية الثقافية للمجتمعات الغربية الراهنة. لهذا فهي، بصورة ما، معذورة في خياراتها إن كانت ترفيّة أو خلاعية أو سريعة أو أعلت، إعلامياً وتلفزيونياً، من قيمة الشكل على حساب المضمون. أن يقفز إعلام العالم النامي ومنه الإعلام العربي عن واقعه الموضوعي ويتبنى "شكلاً" تلفزيونياً غربياً يعتبر محطة متقدمة منسوبة لزمن وظرف غربي ذي خصوصية ظافرة هو إهمال للظرفية التاريخية المحلية وتجاوز لها.
من المعيب حقاً أن تلحق التلفزيونات العربية في تناولها للقضايا والأمور الخاصة بالمجتمعات المتخلفة بالتلفزيونات الغربية ذات الهموم والأجندات الأخرى. وتمتنع عن اجتراح طرائقها الخاصة في توزيع مقادير الاهتمام بالمسائل المنسوبة إلى زمنها، والمعرَّفة حكماً بواقع الهزيمة الذي تعيشه هذه المجتمعات. معنى ذلك أن التسلح بمناهج الفن التلفزيوني الغربي والأميركي في التعامل مع الشاشة لا يُضفي على المتسلح به قوة في المنطق بل يعكس هشاشة التقليد الأعمى. ففي كل حالة مجتمعية هناك خصوصيات ظرفية وإشكالات ضاغطة يفترض أن الإعلام يتفاعل معها عملياً وواقعياً، ولا ينظر إليها من فوق تنظيرات مدارس الإعلام وكأنها معطيات ومقررات مقدسة.
أهم ما تحتويه "البنية الثقافية والفكرية" في المجتمعات الغربية هو العقل النقدي الديكارتي الذي يطبع طرق تفكير الأفراد بغض النظر عن مستوى ا