إذا كان موضوع الفساد والإفساد العربي قد تحوّل - منذ احتلال العراق وحتى الآن- إلى مادة بارزة ومشتركة للحوار في العالم العربي، وبين هذا الأخير وبين الإدارة الأميركية السياسية والإيديولوجية، فإن القيّمين على النظم السياسية العربية أظهروا طاقة مرنة لاستيعاب ذلك ولمحاولة توظيفه في خدمة مصالحهم، التي تبرز منها محاولتهم الاحتفاظ بالسلطة عقوداً أخرى جديدة. وهم - في هذا- يراهنون على "تفهّم" قوات الغزو الأميركي الاستعماري لذلك "ضمناً" أولاً، وعلى اللعب على شعوبهم بصيغ متعددة، منها الاستقواء بتلك القوات عليهم ثانياً.
أما الصيغة المطروحة، الآن، في بعض أوساط النظم العربية فقد قدّمها رهطٌ من المسؤولين في هذه الأخيرة ضمن مناسبات إعلامية معينة. وقد وقف أحد هؤلاء مؤخراً ليعلن - في لقاء صحفي- أن الإصلاح الوحيد الممكن هو الذي يتم على يديه وأيدي أمثاله في السلطة القائمة أولاً، ومن موقع نمط النظام السياسي الذي يقف هو وآخرون على رأسه منذ عقود ثانياً، ويتحدد بصيغة الحزب الواحد الذي يمثل وحده - فعلياً- منطلق الفعل السياسي ومنتهاه. أما إذا قاد الحوار إلى القول بإمكانية الإصلاح المعنِي عبر إعادة النظر الديمقراطي وباتجاه المشاركة السياسية المباشرة والحقيقية من قِبل الأطياف السياسية الأخرى القائمة، فإن الحكم على ذلك يقود - كما جاء في اللقاء الصحفي- إما إلى اعتبار القائلين بذلك "مرتبطين بالعدو"، وإما إلى تصنيفهم في حقل "الجهَلة".
والطريف المدوّي في ذلك يكمن في أن دعاة "الإصلاح" من النمط الأول هم أنفسهم الذين وقفوا على رأس النظام المدعُوّين إلى إصلاحه من الفساد والإفساد، أي مما كان لهم النصيب الأوفى في التأسيس لهذين الفساد والإفساد، وفي قطف ثمارهما. لقد سقط مثل هذا الخطاب السياسي "الإصلاحي" مرتين، مرة أولى من داخل بنيته وآلياته واحتمالاته وآفاقه الداخلية، ومرة أخرى من "خارج" بحيث إن التدفق العولمي الاستعماري الجديد المتمثل بالمشروع الأميركي الصهيوني لم يعد الوقوف في وجهه ممكناً على أساس ذلك الخطاب، هذا إذا أغفلنا عنصراً خطيراً في المعضلة - ولا يجوز أن نغفله- وهو أن الخطاب المذكور نفسه يمكن أن يتحول إلى محفز لذلك التدفق الاستعماري في الوطن العربي.
أما الكيفية التي قد تتجلى فيها عملية التحفيز المشار إليها، فتقوم على اللّف على ثمار نقد تاريخي وسوسيوثقافي ومنهجي سياسي للخطاب السياسي "الإصلاحي" المذكور. ولعل ثمار هذا النقد أن تبرز - خصوصاً- في النقاط التالية: 1- إن الخطاب المعني إنما يقوم على محاولة إعادة التأسيس للفساد العربي. فهو يمثل بنية مغلقة على ذاتها، وترفض الإقرار بالآخر في البلد العربي الواحد ذاته. فإذا كانت هذه البنية قد أفصحت عن نفسها عبر عقود بصفتها فاسدة مفسِدة، فإنها تكون قد فقدت شرعيتها من ذاتها أولاً، ومن المجتمع العربي الذي توجد فيه وتهيمن عليه ثانياً، ومن المجتمع الدولي المتصاعد في الغليان ثالثاً. 2- إن القول بالخطاب المذكور إنما هو مدخل إلى إقصاء الآخرين جميعاً، ومن ثم إلى الظهور بمظهر الخطاب النخبوي الذي يأكل بعضُه البعض الآخر. 3- إذا زعم رؤوس هذا الخطاب السياسي أنهم هم المؤهّلون لحل معضلات البلد العربي المعنِي - وكانوا بالأساس قد ابتلعوا المجتمع السياسي-، فماذا هم فاعلون إذا اتضح أنه برعايتهم تمّ الاستفراد بالسلطة وبالثروة وبالرأي الإعلامي وبالحقيقة؟!