لدى مشاهدة أحداث هذا الصيف، وهي تمر أمام العين كما سلسلة من الصور على شريط سينمائي: مواكب وتظاهرات المحتجين على الحرب، فضائح المنشطات وغيرها من جملة الفضائح التي لازمت دورة الأولمبياد لهذا العام، مجموعة الهجمات والفظائع الإرهابية التي وقعت في أنحاء متفرقة من العالم، وغيرها وغيرها... ربما تثير لدى البعض شعوراً غريباً بالألفة نحوها، فينظرون إليها ويتابعونها وكأنها قد وقعت بالأمس القريب ورأوها من قبل! على شاكلة هذه التجارب في الذاكرة الإنسانية، قالت "جريتشن بورسيل"، وهي تعمل مستشارة للاستثمارات في واشنطن، وهي تصف مشهداً بدا مألوفاً لديها وكأنها قد رأته وعاشته من قبل:"الطريقة التي رصت بها الأكواب على الطاولة، وتنظيم كل شيء حولها وفوقها، بدا لي وكأنني كنت في ذلك المكان من قبل، وشربت الشاي والقهوة في المكان ذاته، للحظة ما. وكان ذلك الشعور الغريب، قد دفعني عندما أفقت منه، لإطلاق ضحكة عالية مجلجلة في قاعة المؤتمر الذي كنت فيه، وكانت فيها تلك الطاولة التي أثارت فيَّ كل ذلك الشعور بالألفة تجاه كل ما يدور حولي، وكأنه حدث بالأمس، وعشته بكامل تفاصيله. ومن فرط الألفة التي شعرت بها، حتى كأني كنت أشاهد فيلماً سينمائياً دخلته وشاهدته من قبل"!
لهذا السبب، فقد استخدم الفرنسيون لفظة "Déjà vu" للتعبير في لغتهم عن ظاهرة أو حالة سلوكية، هي إلى عالم الأدب والروايات والسينما والخيال الفني عموماً أقرب من أن تكون موضوعاً للبحث العلمي الجاد. وتتلخص هذه الحالة في الشعور بالألفة وبأن المرء يعيش أحداثاً ومواقف سبق له أن صادفها وعاشها في حياته، خلال مرحلة ما.
لكن مع تقدير الفرنسيين، فقد شرع علماء وباحثو علم النفس، يثيرون حولها تساؤلات جادة، اعتباراً من عقد التسعينيات من القرن الماضي. وقد أثير بهذه الظاهرة، اهتمام شبيه بذلك الاهتمام بحالات بعض الناس الذين تربطهم صلة قوية بالموتى، فيدخلون في حوار ومناجاة معهم، وكأنهم أحياء. وفي هذا الاتجاه، فقد برزت أبحاث علمية جديدة في مجال الذاكرة الإنسانية، استطاعت أن تفتح نوافذ مبشرة وواعدة، لفهم أفضل لما يحدث بالضبط عند تلك الحالات. والسمة الرئيسة للنتائج التي خلصت إليها الأبحاث المشار إليها، أنها وفرت فرصاً أفضل لتفسير الظاهرة أولا، ثم لإمكانية قياسها والتحقق من مسبباتها علمياً، فيما بعد.
ومن بين هؤلاء العلماء والباحثين، الدكتور "ألان براون"- أستاذ علم النفس في جامعة دالاس المنهجية الجنوبية- وقد صدر له كتاب يحمل عنوان:"تجربة (ديجا في): مقالات في علم النفس". يقول الدكتور "ألان براون"، إن الكثير من العلماء والمختصين في مجال علم النفس، قد أهملوا هذه الظاهرة، وتعاملوا معها وكأنها مسألة ثانوية لا ترقى إلى مستوى البحث العلمي لفترة طويلة من الزمن. غير أن قراءتها علمياً والانتقال بها من دارجية ثقافة الشارع، إلى المختبرات العلمية، سيساعداننا تحت أسوأ الفروض، على فهمها بعمق وعلى نحو أفضل مما هو عليه الحال الآن. وعلى صعيد المسح الاجتماعي للظاهرة، فقد اتضح من خلال استبيان سكاني أجرى مؤخراً، أن ثلثي السكان الراشدين الذين شملهم الاستبيان، أكدوا أنهم مروا بتجربة واحدة على الأقل شعروا فيها بما يسمى حالة الـ "ديجا في" هذه. والغريب في الأمر والمثير للدهشة، أن هذه الحالة، قد تكرر حدوثها عند أفراد يتمتعون بقدر أكبر من حيوية وسعة الخيال بين المواطنين الذين شملهم الاستبيان أكثر من غيرهم. كما اتضح أيضاً أن الذين يسافرون أكثر من غيرهم سواء داخل الولايات المتحدة أم خارجها، هم الأكثر عرضة لحدوث وتكرار الحالة. كما يتكرر حدوثها عند الأفراد المنتمين إلى الشرائح الاجتماعية الأعلى تعليماً من غيرهم، مثل خريجي الجامعات والمعاهد العليا، فما فوق! وربما يعود السبب في هذه الحالة الأخيرة، لكون خريجي الجامعات هم الذين يشعرون بلذة الحالة، لاطلاعهم عليها في كتابات الروائي الروسي "تولستوي"، وقصص "مارسيل بروست" وغيرهما من الكتاب، مثل الكاتب الإنجليزي "تشارلس ديكنز". كما يشير المسح الاجتماعي العام، إلى أن الظاهرة، يكثر حدوثها بين الفئات التي تتراوح أعمارها بين مراحل الشباب المبكر، وصولا إلى مرحلة ما قبل سن التقاعد بقليل، حيث تنخفض نسبة الذين تحدث بينهم. ففي سن التقاعد، عادة ما يعيش الأفراد حياة روتينية متكررة، وكأن اليوم ينسخ اليوم الذي يليه والذي قبله، فيبدو كل شيء عادياً ومألوفاً إلى حد الرتابة.
وقبل قرن من الآن، حين ذاع صيت نظريات "سيجموند فرويد" في مجال التحليل النفسي، كان الناس قد فسروا حالة الـ"ديجا في" هذه، على أنها دليل على النزاع الداخلي غير الواعي بين "هو" الفرد الذي يؤكد ذاته ورغباته الدفينة غير الواعية، والكوابح والموانع الاجتماعية والأخلاقية التي تلجم تلك الرغبات. لكن وعلى امتداد عدة حقب مضت، أشار أطباء الطب النفسي، إلى أن حدوث الحالة، يسبق عند مرضاهم من المصابين بالصرع، حدوث التشنجات المرتبطة بالصرع. ولهذا السبب، فإن الأمل يحدو البا