عندما قامت القوات الأميركية منذ ما يزيد على الأسبوع بعملية عسكرية واسعة النطاق في منطقة "تلعفر" بالقرب من الحدود العراقية- السورية بدعوى ملاحقة متسللين، جاء رد الفعل التركي سريعاً. والسبب في هذا كما هو واضح أن العملية العسكرية الأميركية أدت إلى مقتل عدد من سكان المنطقة من التركمان العراقيين الذين تعتبر تركيا نفسها حامية لمصالحهم. نُقل عن وزير الخارجية التركي عبدالله جول قوله لمحطة" سي. إن. إن" إن بلاده ستوقف تعاونها مع الولايات المتحدة فيما يخص الشأن العراقي في حال واصلت واشنطن عملياتها العسكرية في "تلعفر"، ومن ناحية أخرى نقلت وكالة أنباء الأناضول عن "جول" قوله:"تحدثت شخصياً مع وزير الخارجية الأميركي. وأعربنا بوضوح تام عن أنه إذا استمر (الهجوم) فستنهي تركيا شراكتها على كل الأصعدة التي تمس العراق".
أخذت أتأمل في رد الفعل الذي يدعو إلى الاحترام، فها هي تركيا الدولة الأطلسية أي المرتبطة بتحالف عسكري تقوده الولايات المتحدة - ومن ثم صاحبة المصالح الأكيدة مع هذه الدولة العظمى- تقول لا للتصرفات الأميركية العشوائية في العراق، وكانت من قبل قد رفضت في مارس 2003 من خلال مؤسسات نظامها السياسي أن تكون معبراً للقوات البرية الأميركية للهجوم على العراق. لاحظت أيضاً أنه ليس ثمة وجه للمقارنة على الإطلاق بين "العدد" الذي لقي حتفه من التركمان العراقيين من جراء الغارات الأميركية والعشرات الذين يُستشهدون يومياً كنتيجة للقصف الأميركي للفلوجة وغيرها. ولاحظت كذلك رد الفعل الذي لم يكن رداً أحمق يهدد بعظائم الأمور وإنما جاء محسوباً بكل دقة: إن واصلتم نهجكم الذي يلحق الضرر بمن نعتبرهم في حمايتنا فسوف نتوقف عن المشاركة معكم في هذه اللعبة السخيفة، ومعنى هذا أن المطالبة بالاعتراض على السياسة الأميركية لا تساوي بالضرورة إلقاء النفس في التهلكة.
وخلاصة ما سبق أن قولة "لا" للإدارة الأميركية ممكنة، قالها، من قبل تركيا، شعب أسبانيا حين أسقط في الانتخابات البرلمانية التي جرت في مارس الماضي حكومته المتحالفة مع تلك الإدارة، وأتى بحكومة سحبت القوات الأسبانية من العراق على عجل وإلى غير رجعة، وتبنت خطاً مستقلاً عن الإدارة الأميركية في سياستها تجاه المنطقة، وقالتها كذلك من قبل الفليبين حين سحبت قواتها من العراق بعد أن تعرض أحد أبنائها فيه للاختطاف، وقالها الشعب الفنزويلي في الاستفتاء على بقاء الرئيس "شافيز" أو رحيله حين صوت في الخامس عشر من أغسطس الماضي على بقاء رئيسه "نصير الفقراء" في ظل حضور دولي شهد بنزاهة عملية الاستفتاء واستجابت الحكومة الفنزويلية لكل ما طلبته المعارضة من مراجعات بما أدى في النهاية إلى التسليم بنتيجة الاستفتاء على عكس ما كانت تشتهي الإدارة الأميركية التي كانت لا تروق لها استقلالية "شافيز". وقالتها عدة دول في أميركا اللاتينية آخرها كوستاريكا التي أعلنت وزارة خارجيتها منذ أيام قلائل أن بلادها أبلغت الولايات المتحدة أول من أمس بانسحابها من لائحة الدول الداعمة للتدخل الأميركي في العراق بعد أن أمرت بذلك المحكمة العليا في كوستاريكا. وكان رئيس كوستاريكا قد قرر إدخال بلاده في التحالف الداعم لاجتياح العراق في مارس 2003 مثيراً بذلك في حينه موجة من الاستنكار الداخلي انتهت كما هو واضح بحكم قاطع للمحكمة العليا يضع نهاية لتلك الرابطة. وأخيراً وليس آخر قالتها كرواتيا برفضها طلباً للرئيس الأميركي بإرسال قوات للعراق.
تذكرت هذا كله وتأملت في معناه وغالبني شعور بالألم والخجل معاً، فالدول السابقة وغيرها تمثل شرائح متنوعة من الدول الأعضاء في النظام الدولي منها دول متقدمة يمكن أن تُصنف بشيء من المرونة في شريحة الدول الكبرى كأسبانيا، ومنها دول ذات دور إقليمي مهم كتركيا وعادي كالفليبين، ومنها دول صغيرة ككوستاريكا. ونحن العرب لدينا دول ذات أدوار إقليمية تغضب كثيراً إذا تحدث أحد عن تراجعها، ودول عادية ودول صغيرة، لكن أحداً لم يلتفت في أي وقت من الأوقات إلى عشرات الشهداء الذين يسقطون يومياً من جراء الغارات الأميركية العشوائية في العراق والتي تتم بدعوى ملاحقة "الإرهاب" أو "الزرقاوي" أو أي هدف تزعمه أو تتخيله قيادة الاحتلال لكي نكتشف بعدها مباشرة أن شهداء الغارات أناس عاديون يضمون أطفالاً وشيوخاً ونساءً وغيرهم ممن لا ذنب لهم، إلا أن قيادة احتلال العراق قررت أنهم إرهابيون بالطريقة نفسها التي قررت بها من قبل أن بلدهم وكر لأسلحة الدمار الشامل فغزته.
في مقابل هذا كله لم يُسمع رد فعل عربي واحد للقتل المستمر لأبناء الشعب العراقي، مع أن دروب الفعل كثيرة، وكان من الممكن أن يتحدث البعض عن إدانته لسقوط مدنيين أبرياء في عمليات القصف- هكذا دون إدانة أو شجب أو تنديد أو حتى تحديد للجهة القائمة بالقصف، وكان من الممكن كذلك أن يتحدث البعض الآخر عن القلق بسبب الإفراط في استخدام القوة المسلحة في مواجهة الموقف المتدهور في العراق، وغير ذلك الكثير من المواقف اللفظية التي لا تغني ول