من حسن الحظ أن "الإرهاب النووي" لا يزال شبحاً، ولم يتحول إلى حقيقة بعد. بيد أن الأعمال "الإرهابية" التي وقعت مؤخراً في روسيا، تستدعي حث الخطى لمنع "الإرهابيين" القادرين على هدر دماء ضحاياهم، بصرف النظر عن هوية أو أعمار هؤلاء الضحايا، من الحصول على القنابل والأسلحة النووية. ومن حسن حظ إدارة بوش أنها تمكنت أخيراً من تبني مبادرة، من شأنها تحسين مستوى أمن المواد النووية والمشعة، في روسيا التي تمزقها أحداث العنف و"الإرهاب" على نحو خاص. لكن ما لم تكن "مبادرة خفض الخطر الدولي" التي تم تبنيها في شهر مايو الماضي، جزءاً من استراتيجية شاملة وأوسع نطاقاً، تستهدف منع سرقة المواد النووية واستخدامها لأغراض "إرهابية"، فإنها ستخفق في تحقيق هدفها الخاص بصيانة الأمن القومي الأميركي.
تقوم المبادرة المذكورة، على جهود أميركية- روسية مشتركة، للحد من انتشار الأسلحة النووية بين البلدين. وهي الجهود التي تمت بلورتها على أساس ما يعرف ببرنامج "Nunn-Lugar" للتعاون في مجال خفض الخطر النووي، وهو برنامج أميركي تموله الخزانة العامة الأميركية، وقد تم إنشاؤه خلال الحرب العالمية الثانية، بغرض تأمين ترسانة الأسلحة النووية الروسية. أما المبادرة النووية الجديدة التي قامت على أساسه، فتستهدف جمع مادتي "البلوتونيوم" و"اليورانيوم" المخصب، القابلتين للتطوير والوصول إلى مرحلة إنتاج الأسلحة النووية، من مختلف أنحاء روسيا الواسعة، علاوة على تلك المنتشرة في عشرات الدول الأخرى، ثم حفظها في مكان آمن، مخصص لحفظ هذا النوع من المواد المشعة.
لكن مع بقاء استراتيجية التأهب النووي الأقصى، في كل من الولايات المتحدة وروسيا منذ فترة الحرب الباردة وحتى الآن، فإنه لابد من أن نعترف بأن السياسات الحالية، الرامية إلى خفض خطر توجيه ضربة نووية محتملة للولايات المتحدة الأميركية، سواء كانت هذه الضربة من قبل جماعات "إرهابية" أم دول مارقة، تظل سياسات لا تتفق وبقاء تلك الاستراتيجية، علاوة على كونها نوعاً من سياسة هزيمة الذات. فمن جانب، تلتزم كل من واشنطن وموسكو، بتوجيهات رئيسيهما، بالإبقاء المستمر على ترسانتيهما النوويتين، في حالة التأهب القصوى، للرد على أي هجوم نووي محتمل من قبل أي من الدولتين على بعضها بعضاً. تلك هي استراتيجية الردع النووي، التي لا تزال سارية منذ حقبة الحرب الباردة، وإلى اليوم، مع العلم بأن في مقدور أي من واشنطن أو موسكو، شن حرب نووية مدمرة وواسعة النطاق، على الأخرى خلال دقائق معدودة. ومن الجانب الآخر، تتعاون كل من واشنطن وموسكو، في الوقت ذاته، في مجال تأمين المواد والأسلحة النووية الروسية ضد السرقة من قبل "الإرهابيين" والدول المارقة، تحت مظلة الحد من انتشار الأسلحة النووية، بل وحظر انتشارها.
صحيح أن الولايات المتحدة، تمثل رادعاً نووياً لروسيا، بجعلها آلاف القطع والأسلحة النووية رهن إشارة الانطلاق، في أي لحظة، بما في ذلك أوقات السلم العادية بينهما. غير أن ذلك يرغم روسيا في المقابل، على وضع أسلحتها النووية المنتشرة في مختلف أنحائها وجمهورياتها الشاسعة، رهن إشارة الانطلاق في أية لحظة تقتضي شن حرب نووية واسعة النطاق ضد أميركا. وللإبقاء المستمر على قدرة الترسانة الروسية على الانطلاق في أية لحظة، فإن ذلك يطالبها بأن تظل في حالة مستديمة من نقل وترحيل قطعها النووية، من مناطق إعادة التصنيع، إلى مواقع القواعد العسكرية المنتشرة على طول البلاد وعرضها، وبالعكس. وهذا الانتقال المستمر، هو الذي يعرض الأسلحة والمنتجات النووية للخطر، ويجعل منها نقطة الضعف الرئيسية في استراتيجية الأمن النووي.
فما من يوم واحد يمر على روسيا، دون أن يتم فيه تحريك ونقل مئات القطع النووية من جمهورية إلى أخرى، ومن مكان إلى آخر. وإضافة إلى ذلك، فإن هناك ما لا يقل عن 1000 قطعة نووية أخرى، لا تزال بانتظار ترحيلها وتأمينها في مكان ما، يخصص لها. أما هذا التنقل المستمر للأسلحة النووية بين الوحدات والقواعد العسكرية المنتشرة على امتداد روسيا، من مقر قواعدها إلى مناطق إعادة التصنيع والصيانة، فيعود إلى حقيقة أن ترسانة الأسلحة النووية الروسية، لا سيما قنابلها، ليست من الجودة والكفاءة بحيث تعمر طويلا. وإذا كان عمر القنبلة النووية الأميركية الافتراضي هو ثلاثون عاماً، فإن العمر الافتراضي للقنبلة الروسية، يتراوح ما بين 8 إلى 12 عاماً فحسب. وما أن تصل إلى ذلك العمر، حتى يتعين ترحيلها وإعادتها إلى مناطق إعادة التصنيع في "أوزريسك".
وفي كل عام يعيد مصنع "ماياك" الروسي لإنتاج الأسلحة النووية، تصنيع المئات، بل ما يصل إلى 1000 قنبلة نووية. أما الولايات المتحدة، فيقدر عدد القنابل التي يعاد تصنيعها سنوياً فيها، بما يقل عن 10 قنابل فقط. وخلافاً لما هو عليه الحال في الولايات المتحدة الأميركية، فإن الطرق الرئيسية المستخدمة في نقل وترحيل هذه الأسلحة من القواعد العسكرية، إلى المصنع وبالعكس، جد طويلة ومتفرقة، في مختلف أنحاء ا