حقيقتان لا يمكن تجاوزهما في البحث عن صيغة جديدة تجمع العالم العربي وترسخ من أقدامه في مواجهة خريطة المستقبل، صيغة تجعله قادراً متمكناً من التصدي للتحديات القادمة. وهاتان المسلمتان لا يمكن اختزالهما في البعد السياسي بل لابد من أن تشمل الحضاري بمعناه الشامل من تكنولوجي واقتصادي وإنساني وعلمي. وأما الحقيقة الأولى فهي أن التعريف الكلاسيكي لوحدة العرب والذي ارتبط بالتيار القومي لم يعد كافياً في هذا العصر، وهذا التعريف كما نعلم اتصل بادئ ذي بدء بمعاني التحرير والاستقلال وانحرف فيما بعد متبنياً اشتراكية الدولة وسيطرتها على المجتمع ولامس الماركسية في أطرافها. فلم يعد هناك مكان لفرح أنطون وساطع الحصري وقسطنطين زريق وميشيل عفلق وجمال عبدالناصر والأفكار المشتقة عن الوطنيات الأوروبية والتي تعود بجذورها لأواخر القرن التاسع عشر. ولابد من التعامل مع هذا التراث المتنوع كفصل من فصول تطورنا التاريخي والفكري والذي لابد من مراجعته والبناء عليه. فهذا الإرث تاريخ وتراث بكل ما يحتويه من انتصارات وانكسارات، لا يمكن أن يكون برنامجاً سياسياً صالحاً للقرن الحالي. نقول ذلك ونحن مدركون أن الاحتقان المنتشر على الساحة السياسية العربية حالياً قد يشجع البعض للتواري خلف منهج أدى دوره وآن الأوان لتجاوزه.
والحقيقة الأخرى التي لا تقل أهمية أننا اليوم وفي عالم التكتلات الكبيرة والقوى الصناعية العظيمة والحضارات المتطورة، لا نستطيع أن نستمر بمنطق التشرذم ومنطق الوطنيات الصغيرة والرؤى الإقليمية، بل لابد من أن ندرك أن المستقبل للعرب لن يكون مزدهراً إلا من خلال صيغة جديدة ينتج من خلالها تكتل يتمتع بثقل سياسي واقتصادي وحضاري. ونقرأ عن العرب المتأملين لأوروبا وتطور مسيرة وحدتها ومتأسفين أن العالم العربي الذي تجمعه اللغة والدين لا يصل إلى جزء من النجاح الأوروبي. ومثل هذا الطرح رومانسي وغير واقعي، لأننا وفي حاجتنا للتكتل والتكاتف والتجمع لابد لنا من أن نراجع الفرضية الأساسية للتيار القومي وهي فرضية تعود للقرن الماضي ولم تصمد أمام امتحان الزمن والعديد من الاختبارات السياسية التي تعرضت لها.
ولعلنا نبسط هنا، ولكن هدف التبسيط ليس قصده اختزال الحقائق ولكن الغرض منه عرض الفكرة للنقاش والتداول. فالتكتل العربي لابد منه لمواجهة التحديات الحاضرة والقادمة، كما أن مثل هذا التكتل لابد منه لأسباب اقتصادية وأخرى تتعلق بمستقبل هذه المنطقة، والخوف من أن تطغى عصبياتها الصغيرة على انتماءاتها الكبيرة، فالمستقبل هو للتكتلات الكبيرة، والامتحان الكبير لن يأتي من الخارج بل من تحديات ديموغرافية وعملية تطرق الأبواب ولابد من التعامل معها. فالجيل العربي الصاعد، على سبيل المثال، يواجه مستقبلاً قاتماً سواء كان ذلك على صعيد الأمور التي تهمه من حرياته الشخصية إلى فرص عمله إلى مستوى وجودة الحياة التي يتطلع إليها. والسياسة العربية بوضعها الحالي فشلت فشلاً ذريعاً في التعامل الجاد والعملي مع هذه التوقعات وغيرها، فهذه المسائل تبقى في سلم الأولويات أهم للجيل القادم من حزمة الشعارات التي تم تسويقها لآبائه وأجداده في العديد من النظم القومية. وأشير إلى ملاحظة محزنة تبين أنه في عالمنا العربي والممتد من المحيط إلى الخليج لا يجد الخريج العربي الشاب أكثر من عشر مدن توفر له تلك المعادلة التي يستحقها، والمتمحورة حول فرص العمل والحرية الشخصية والخدمات الضرورية التي يتوق إليها، وبالمقابل نجد أن الخريج الألماني أو الفرنسي أو الإيطالي يجد هذه المعادلة متاحة أمامه في العشرات من المدن والقرى.
وخلاصة الحديث هذا اليوم أن التكتل العربي لابد منه لمواجهة استحقاقات المرحلة القادمة، ومثل هذا التكتل لا يتناقض مع حقيقة الانتماءات الأخرى، وكما نرى ذلك بوضوح في الحالة الأوروبية التي تتشكل أمامنا وتخلق حقائق تطوي أمامها تقاليد وطنية قوية تدرك أن الصالح العام في هذا القرن يتطلب التنازل الوطني لخلق كتل أقوى تعود بفوائد محسوسة، وهنا أشدد على كلمة محسوسة، للمواطن الأوروبي.
ولكي نبدأ في إعادة صياغة مفهوم جديد للوحدة العربية لابد لنا من أن نشدد أن المفاهيم القومية القديمة لا مكان لها في عصرنا هذا إلا باعتبارها بداية من البدايات لتجربة لعلها تكون أنجح وأقرب للمواطن من حيث إنها ستكون تدريجية وستعود عليه بنتائج ملموسة تنتشله من الإحباط الذي أصبح سمة ملازمة للشباب العربي، وإعادة صياغة مفهوم جديد للوحدة العربية يفترض أن يكون هذا المفهوم وليد هذا العصر وابناً شرعياً لمؤسساته. فليذهبْ الحزب الطليعي إلى الجحيم، ولتحل محله المؤسسات السياسية القائمة على المشاركة الحقيقية والفعالة. وليولِّ مفهوم الزعيم القائد وليحل محله الرئيس أو رئيس الوزراء المعرض للمساءلة. ولنلغِ سيطرة الدولة على الاقتصاد وأوهام قوى الشعب العاملة، ولنتبنَّ الاقتصاد الحر والأسواق المفتوحة من الخليج إلى المحيط. هذه التغييرات وغيرها هي سمة العصر ولابد لنا من أن نربط بي