لا تتطلب ملاحظة مخاطر العولمة، الحصول على درجة جامعية في علم الاقتصاد. فالصعود الاقتصادي الكبير الذي تشهده كل من الصين والهند، مصحوبا بانخفاض الأجور فيهما، وكذلك انخفاض أسعار صادراتهما، مقابل ارتفاع قدرتهما التكنولوجية، إنما ينعكس كل ذلك سلبا على الولايات المتحدة الأميركية، ويؤدي إلى فصل المزيد والمزيد من الأيدي العاملة، وخفض الأجور فيها. غير أن هذه الظواهر نفسها، يصغي الناس إليها بدرجة أكبر من الاهتمام، عندما تصدر عن شخصية أكاديمية متخصصة وذائعة الصيت. فهل حانت لحظة إبطاء عجلة التجارة الحرة؟ "أن يتنامى اتجاه عام لإبطاء التجارة الحرة، ففي ذلك مشكلة كبيرة دون شك، على رغم ما لهذا الاتجاه من إيجابيات ومزايا" ذلك هو ما قاله "بول إيه. ساميلسون"، المفكر الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، ومؤلف كتاب أساسي في علم الاقتصاد، أسهم في تعليم الملايين من طلاب الاقتصاد على نطاق العالم ككل.
فقد أثار هذا المفكر جدلا اقتصاديا واسعا، بمقالته التي كتبها للعدد الأخير من مجلة "آفاق اقتصادية"، تطلبت إعادة النظر في الكثير من المبادئ التي أقرها معظم الاقتصاديين المعاصرين. وفقا لـ"ساميلسون"، فإن مكاسب الولايات المتحدة الأميركية من مختلف الحروب الاقتصادية التي تدور في مجال التجارة العالمية، هي أكبر من أن تخاطر أميركا بخسارتها. بعبارة أخرى، فإن المقصود من هذا التلميح، هو أنه ربما تخسر الدول أحيانا، نتيجة لنشاطها التجاري الحر.
وحتى هذه اللحظة، فإن نتيجة كهذه، لم تكن مطلقا مما خبرته أميركا التي عرفناها، على حد قول "ساميلسون" الذي يمضي مستطردا في الحديث: فمنذ الحرب العالمية الثانية، وحتى بدايات عقد الثمانينيات، ظل يمثل نمو التجارة المستمر مع أوروبا ودول حوض المحيط الهادئ، ما يصل إلى نسبة 30 في المئة من ارتفاع المعدل المعيشي في الولايات المتحدة الأميركية. وفي رأي الاقتصاديين أن ذلك نتيجة لما يصطلح عليه بـ "قانون الميزة المقارنة" بمعنى أن تتخصص بعض الدول في إنتاج سلع وخدمات بعينها، بينما يحقق كافة الشركاء التجاريين فائدة من تلك السلع والخدمات على المدى البعيد. لكن الجديد الذي لا يراه "ساميلسون" هذه المرة، هو أنه ليس متوقعا لأميركا أن تحقق أية مكاسب تجارية أو استثمارية وغيرها من الفوائد الاقتصادية ذات الصلة بالعولمة، خلال الثلاثة عقود المقبلة. وأضاف "ساميلسون" قائلا خلال لقاء صحفي هاتفي أجري معه، إن أميركا ربما تحقق ارتفاعا نسبيا في المعدل المعيشي بنسبة 10 إلى 15 في المئة، بل وربما تخسر إجمالا من نشاطها التجاري هذا.
تأكيدا لهذه الفكرة يقول المفكر الاقتصادي: إن الفكرة الجامدة، الواسعة الانتشار في الوسط الاقتصادي، عن أن كل ما يؤدي للتوسع في العولمة وزيادة رقعة التجارة الدولية، هو أمر إيجابي، لهو خطأ كبير. من المؤكد أن رأيا كهذا، يلاقي هوى في نفوس الجماعات والحركات المناوئة للعولمة، وهي التي تنظم ضدها التظاهرات ومواكب الاحتجاج، سواء في اجتماعاتها التي تعقد في منظمة التجارة العالمية، أم مقر البنك الدولي، وغيرها من قمم ومؤتمرات دولية، حتى خارج الولايات المتحدة الأميركية.
واليوم فقد أصبح في مقدور معظم الاقتصاديين مشاطرة "ساميلسون" الرأي ذاته، على الأقل فيما يبدو من ارتباط مباشر، لا تخطئه العين، بين التوسع في استيراد السلع والخدمات الأجنبية، وفصل أعداد واسعة من العمالة الأميركية المحلية. ومع ذلك، فإن من بين الاقتصاديين من يجادل بأن لانخفاض أسعار السلع والخدمات المستوردة مزايا أكثر مما تتسبب به من خفض للعمالة المحلية. من بين هؤلاء، يقول "رتشارد كوبر" أستاذ علم الاقتصاد في جامعة هارفارد: لقد استطاع "ساميلسون" تطوير احتمالات منطقية متماسكة ومفارقة في الوقت ذاته، بقدر ما هي مثيرة للاهتمام.
ولكن الشيء الذي لم يلتزم به "ساميلسون" أو يعره اهتماما، هو ما إذا كانت هذه الاحتمالات تتوافق حقا مع الواقع الاقتصادي أم لا. بالنسبة لي مثلا، فإن التجارة الحرة لا تسير بتلك الخطوات السريعة التي تحدث عنها "ساميلسون". ولنأخذ لذلك مثالا صناعة النسيج في الولايات الأميركية الجنوبية. فقد حصلت هذه الصناعة على نوع من الحماية، بموجب اتفاقية طويلة المدى لحماية الصناعات القطنية، كان قد أبرمها الرئيس الأسبق "جون كنيدي"، وهي ترمي لحماية النساء بالذات في الولايات المذكورة. اليوم وعلى رغم مرور ثلاثة عقود ونيف على تلك الاتفاقية، فإن درجة ما من درجات حماية عاملي صناعات الأنسجة القطنية، لا تزال قائمة. ثم يذهب "كوبر" للقول، إنه وبسبب المرونة النسبية التي يتسم بها سوق العمل الأميركي، فإن التغييرات المفاجئة، تكون أحيانا ذات أثر ونتائج أكثر إيجابية، من التغييرات البطيئة في هذا القطاع.
لكن يرد "ساميلسون" على هذه المزاعم بقوله: إن فارقا أساسيا قد ظهر بين اقتصادات الأمس واليوم، ويتمثل هذا الفارق في أن تنامي واتساع اللامساواة الاقتصادية، قد تم تعزيزه اليوم أكثر من أي وقت